هيام القصيفي –
قراءة في تداعيات الاتفاق النووي على مناطق الصراع والمواجهة بين محورين، حيث يمكن أن تحاول إيران وخصومها استعجال تثبيت مناطق النفوذ الاستراتيجية
كان من الطبيعي أن ترصد أوساط سياسية متابعة لملف العلاقات الأميركية ـــ الإيرانية، منذ أمد طويل، الأيام والساعات الأخيرة التي سبقت اتفاق فيينا بين إيران والدول الخمس زائداً واحداً. ففيما كان لبنان الرسمي منصرفاً الى البحث في جنس الملائكة والأزمة الحكومية الداخلية، كانت الأنظار تتوجه الى طهران والسعودية وواشنطن، كما سوريا والعراق، في محاولة لتلمس ما يمكن أن ينتجه الاتفاق المفصلي في تاريخ منطقة الشرق الأدنى والأوسط.
بالنسبة الى هذه الأوساط، ليس من الضرورة أن يشكل الاتفاق بداية مرحلة استتباب المنطقة، علماً بأنه يحتاج الى وقت طويل لتثبيته ومروره بمراحل التطبيق العملاني. وهذا الوقت قد تحتاج إليه الدول الشرق أوسطية لالتقاط أنفاسها والاستعداد لمواجهة ما أفرزته المفاوضات من جلاء في المواقف الأميركية والأوروبية والإيرانية، من دون أن ننسى ما سيتركه الاتفاق من تأثيرات مباشرة في الولايات المتحدة المقبلة على انتخابات رئاسية، وتحوّل هذا الاتفاق إلى بند رئيسيّ في برامج المرشحين من الجمهوريين والديموقراطيين، كما كانت مواضيع الإرهاب و»القاعدة» أساسية في الأعوام السابقة. ومن المتوقع أن نشهد تدريجاً، وبعيداً عن الصراع داخل الكونغرس وحوله، تحول الاتفاق إلى مادة كباش حقيقي حتى داخل معسكر الديموقراطيين، كما هي الحال مع المرشحة هيلاري كلينتون التي قد تسعى الى الإفادة من معارضته انتخابياً.
إذاً، وبعد أعوام طويلة من الانتظار، يمكن أن يشكل الاتفاق حافزاً أساسياً للدول المعنية بالخلاف الثنائي الذي تمثل إيران أحد محاوره، وبعض دول المنطقة محوره الآخر، لإعادة رسم استراتيجية جديدة وتثبيت المناطق التي يعتبرها كل محور مناطق نفوذه وتشكل «مفاتيح» أساسية في حضوره الإقليمي وتأثيراته الدولية، وفي وضع كل طرف خطوطاً حمراً أمام خصمه. والأخطر أن يحاول أي منهما استعجال الذهاب الى فرض «أجندة» جغرافية وهيكلية جديدة لتحسين وضعيته وتحصينها.
مشهدية جديدة
في طريقها إلى الظهور ومعها خطوط حمر كثيرة
فدول المنطقة عاشت في الأعوام الأخيرة، على إيقاع انتظار ما سيؤول إليه الحوار الأميركي ـــ الإيراني، ودخول الأطراف الأوروبيين على خطه، واستثمار مراحل الحوار في بلدان المنطقة الخاضعة لتأثيرات إيران ومعارضيها على السواء. ولا شك أن صعود أسهم الحوار وهبوطه في بعض المراحل الحساسة تركا تداعياته السياسية والعسكرية على سوريا والعراق، وعلى التجاذبات الداخلية في لبنان. إضافة الى تأثيرات مباشرة على علاقات دول المنطقة كالسعودية وإسرائيل بالولايات المتحدة، بعدما طبع الرئيس الأميركي باراك أوباما عهده بدعم واضح لعلاقة أميركية ــــ إيرانية سوية، رغم معارضة داخلية شديدة.
واليوم، بعدما حسمت الدول المعنية موقفها لصالح اتفاق على هذا المستوى، يمكن أن يبدأ عصر جديد يأخذ في الاعتبار ما حققه الاتفاق النووي في صورة مباشرة ومن تأثيرات جانبية يمكن لإيران وخصومها الإفادة منها. ومن الطبيعي أن تعمد هذه الدول الى بناء قاعدة سياسات مختلفة في ساحات النزاع الإقليمية المعروفة، من العراق الى سوريا، وصولاً الى لبنان (الذي لا تزال الدول الفاعلة تحيّده عن المواجهة المباشرة)، إضافة الى اليمن، وهي التي انفجرت بطريقة أو بأخرى، وارتسمت خطوط التماس السياسية والأمنية فيها، فيما كان يشتد الكباش الشيعي ــــ السني في المنطقة.
تنطلق إيران من الواقع الذي فرض نفسه على الأرض، في الأعوام الأخيرة، إن لجهة وضع العراق جغرافياً وأمنياً وسياسياً، حيث يتمدد النفوذ الشيعي في مناطق معروفة، وإن في سوريا حيث فرزت في الأشهر الأخيرة مناطق نفوذ النظام السوري بدعم من إيران وحزب الله. ومن شأن الاتفاق أن يعطيها مدى أوسع في تثبيت احتياجاتها والمناطق المفاتيح التي تدخل ضمن استراتيجيتها الجديدة.
وعلى خط مواز، بدأت تتشكل في العراق مناطق الامتداد السني، كما هي الحال في سوريا. والأمر نفسه ينطبق على وضع اليمن، ما يساعد المحور السني على تأطير مناطق محددة ومدّها بالعون. لكن المعضلة التي ستتبلور صورتها تدريجاً، ولا تواجهها إيران، هي أن المحور السني «الرسمي» لا يتفرّد بسيطرته على الساحات السنية، في ظل الصعود المطّرد لتنظيم «داعش»، الذي تعتبره هذه الدول خطراً عليها وتسعى الى محاربته. وانفلاش هذا التنظيم وقوته يضعان الدول التي تخاصم إيران في مأزق حقيقي، لأنها تصبح تلقائياً بين خطرَي «داعش» من جهة، وإيران ما بعد النووي من جهة أخرى. ولا شك أن ما يعيشه اليوم الأردن وتركيا في عملهما للحد من صعود التنظيم في المناطق المتاخمة لهما، وإمكان تمددهما الى داخل سوريا لمحاربته في عقر داره، وإنشاء مناطق عازلة تبعد خطر الحرب عن أراضيهما، يمثل اليوم أبرز صورة عن واقع هذه الدول. وإذا كانت تركيا تحارب على جبهة الأكراد والتنظيم معاً، وتلاقي دعماً قطرياً، فإن السعودية، التي تدعم الأردن، تريد بدورها خلق حالة متماسكة بعد حرب اليمن، ما يجعلها بعد اتفاق فيينا في موقع حساس، تحاول من خلاله، مع تحييد نفسها عن تنظيم الدولة، الإمساك بمناطق نفوذ في دول المواجهة مع إيران. وهو ما لن يكون سهلاً في ظل تنامي قوة «داعش».
ولأن الاتفاق النووي وضع خطاً فاصلاً بين مرحلتين، فإن مشهدية جديدة في طريقها الى الظهور، ومعها خطوط حمر كثيرة، في خضم مرحلة تاريخية وانقسامات طائفية وتصاعد حدة الحرب وطابعها الأمني والعسكري في الشرق الأوسط. وجرت العادة ألا ترسم هذه الخطوط إلا بالدم، وليس من خلال مفاوضات وحوارات على الطاولة.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي