نبيه البرجي-
عودة خاطفة الى مذكرات اندريه غروميكو الذي لم يكن «حائطاً ناطقاً»، كما وصفه الرئيس فرنكلين روزفلت اثناء مؤتمر يالطا في شباط 1945.
ما يستشف من المذكرات ان غروميكو كان رشيقاً وخفيف الظل، وكان يرى ابعد بكثير مما ترى الدببة القطبية، وابعد بكثير مما يرى رعاة البقر. هذا ما ظهر في ملاحظات الديبلوماسي الاميركي الفذ افريل هاريمان حول مندرجات المؤتمر.
وزير الخارجية السوفياتية الراحل والذي تقلد رئاسة مجلس السوفيات الاعلى، كان يعتقد الا دور لموسكو في الشرق الاوسط اذا لم تربطها علاقات استراتيجية مع مصر، وكانت تركيا وايران آنذاك جزءاً من البنية الاستراتيجية للولايات المتحدة. اما المملكة العربية السعودية فلم تكن لتبتعد في اي يوم عن المسار الاميركي في المنطقة وفي العالم…
بعد كل تلك العقود، حدثت تطورات دراماتيكية في البنى الجيوسياسية، وفي البنى الايديولوجية، في الشرق الاوسط. ايران ابتعدت عن الكوكب الاميركي، وتركيا تحاول ان تقفز فوق الجميع، وتلعب على الجميع علّ ذلك يساعدها على استعادة ولو جزء من مساحة (ووهج) ودور السلطنة…
مصر بقيت مصر في الخيال الروسي، وان دفعها انور السادات بعيدا عن اي دور اعتقادا منه ان معاهدة السلام مع اسرائيل تفتح امامه الآفاق المالية والاقتصادية، لم يدرِ ان مناحيم بيغن لم يجالسه في منتجع كمب ديفيد الا بعدما كان هنري كيسنجر، وفي عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، قد ارسى حدودا ابدية للدولة المصرية كما للدور المصري…
يقول اندريه غروميكو ساخرا ان السادات خُدع بكيسنجر، وببهلوانيات كيسنجر الذي لم يكن يرى في دور مصر ما هو ابعد من دور نجوى فؤاد التي رقصت بين يديه خلال احدى زياراته القاهرة.
مصر لا يمكن ان تكون راقصة في الشرق الاوسط. تتقاضى اتعابها وتخلد الى النوم. ثمة اكثر من لقاء عاصف بين محمد حسنين هيكل وهنري كيسنجر حول هذه المسألة بالذات. لكن السادات الذي قال ان 99.9 في المئة من اوراق اللعبة بين يدي اميركا، وقع في الفخ الاميركي وبقي هناك حتى يوم اغتياله في 6 تشرين الاول 1981. ماذا فعلت هذه الاوراق للتراجيديا الفلسطينية؟
قد يكون فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي استعادا بعضا من تلك الصور، كل بطريقته الخاصة، لدى لقائهما الاربعاء في الكرملين. اتفاق على تزويد مصر بمفاعل نووي لتوليد الطاقة لا لتخصيب اليورانيوم. ثمة خطوط حمراء في الشرق الاوسط ويدركها الرئيس السيسي بدقة، ما هو اكثر حساسية من ذلك بكثير التطابق بين الرجلين حول الملف السوري، وايضا حول السبل الخاصة بمواجهة تنظيم الدولة الاسلامية..
الروس يقولون الا احد مثل المصريين، إن كانوا في وزارة الخارجية او كانوا في اجهزة الاستخبارات،اكثر إلماما بالتفاصيل السورية، وبما تريده انقرة وتل ابيب من سوريا.
تاريخ مصر وسوريا يكاد يكون مشتركا. الدولتان كانتا تشكلان في يوم من الايام دولة واحدة، ومحمد علي باشا كان يرى نوعا من الاخوة في الدم بين البلدين. ليست في اية حال اخوة قايين وهابيل كما في النماذج العربية الاخرى…
لا يمكن للمصري الا ان يكون سوريا بصورة ما، ولا يمكن للسوري الا ان يكون مصريا بصورة ما، ودون ان يبقى خفيا ان القاهرة حاولت احداث تعديل في النظرة السعودية الى سوريا. الاستخبارات المصرية قالت اكثر من مرة ان تواصل الحرب على الارض السورية يفيد رجب طيب اردوغان وبنيامين نتنياهو، دون ان يفيد اي دولة عربية الا اذا كانت هذه تتلذذ بوضع يدها على الحطام …
وكما ترى الاستخبارات المصرية ان ليبيا هي بمثابة الثقب الجيولوجي الذي ينتج مقاتلي «داعش» ويتولى تسويقهم في شمال افريقيا، وصولا الى مصر بطبيعة الحال، فإن سوريا تمثل الحالة نفسها للمشرق العربي، حتى اذا ما تبلور اتجاه حقيقي لاحتواء تلك الظاهرة البربرية، لا بد من اقفال الثقب الذي هنا والثقب الذي هناك.
بوتين الذي قنواته مفتوحة مع المسؤولين السعوديين يريد مؤازرة السيسي في اقناع هؤلاء المسؤولين بأن مطحنة الدم ينبغي ان تتوقف في سوريا. تاليا،عدم الرهان على رجب طيب اردوغان الذي بألف وجه ووجه والذي يقترب من النهاية، ولا الرهان غير المباشر على بنيامين نتنياهو الذي يختزل الحلم التوراتي بتحويل سوريا الى ركام…
الرجلان اتفقا على انشاء جبهة تضم سوريا لمواجهة «داعش» الذي، وبالرغم من كل الغارات، ومن كل التحالفات، ومن كل السيناريوات، تحوّل الى قوة ضاربة، في كل ارجاء العالم، وليس في العراق وسوريا وحدهما. حين يتحدث فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي بلغة مشتركة، لا بد ان يحدث شيء ما في المشهد. الكل في حنين الى القاهرة وديبلوماسية القاهرة!
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي