شكّل دخول روسيا على خط محاربة الجماعات الإرهابية في سوريا منعطفاً رئيسياً في مسار الأزمة الممتدة في أرض الشام منذ نحو خمس سنوات. شكّل التدخّل الروسي أيضاً مادّة دسمة للصحافيين والمحلّلين المؤيدين لهذا التدخّل والمعارضين له على السواء. بعيداً عن الترويج السلبي أو الإيجابي، قرّر الروس مسبقاً التعاطي بشفافية مع الأمر، إعلامياً وسياسياً وحتى عسكرياً. المعركة في المنظار الروسي مناسبة لتثبيت القاعدة الأخيرة لهم في الشرق الأوسط من جهة، ولإعلان عن جهوزية “الدبّ” للعب أبعد من الحدود التي انفكأ داخلها منذ انهيار الإتحاد السوفياتي إثر الحرب الباردة.
يحرص الروس، عند الحديث عن عملياتهم العسكرية في سوريا ودلالات توقيت اتخاذ القرار، على إبراز الجانب السياسي وإضفاء المشروعية على تحرّكاتهم. يسعون الى إظهار خطوتهم بكامل “نظافتها” القانونية. فَروسيا، مهّدت لدخولها على خط محاربة الإرهاب في سوريا من خلال الأطر السياسية النظامية، عبر تلبية طلب رسمي من الحكومة السورية الشرعية.
بعيداً عن الخوض في الأسباب التي أوجبت القرار الروسي الكبير، وهو ما أُشبِع دراسة وتحليلاً على مدى الأسابيع الماضية، بدأت روسيا ضرباتها في سوريا بشكل سريع، ضاربة عرض الحائط جميع المعادلات التي حاول الأميركيون وحلفاؤهم تكريسها على مدى عُمر الحرب على سوريا. فُهِم هذا من خلال الضربات الروسية التي لم تميّز بين “داعش” و”النصرة” و”الجيش الحر” و”جيش الفتح” و”أحرار الشام”، ولا بين الجماعات الإرهابية المدعومة من السعودية أو قطر أو تركيا، ولا تلك التي تحظى بغطاء أميركي.
منهجية الحرب الروسية في سوريا
تعمل روسيا على الجغرافيا السورية وفق خطّة متدحرجة محدّدة الأهداف والتوقيت، مع هامش مناسب للتعامل مع المفاجآت أو التطورات غير المحسوبة. مسار المعركة العسكرية التي تخوضها موسكو، سيسلك المناطق التي من شأنها تحصين العاصمة دمشق وجوارها، شمالاً، ومن ثم ملاحقة الإرهابيين القادمين من الجمهوريات الجارة لروسيا شرقاً. وعليه، رسم الروس مسار عملياتهم بدءاً من سهل الغاب فجسر الشغور وإدلب وحلب، وصولاً الى الحسكة ودير الزور.
أما بالنسبة للرقة، التي تعتبر معقل تنظيم “داعش” التكفيري، فلها مرحلة لاحقة. يخطّط الروس لجعل الرقة مركز جذب للمسلحين، وخصوصاً الشيشانيين والقوقازيين منهم، الفارّين من الحملة المرتقبة على إدلب والحسكة ودير الزور تحديداً. ضربت روسيا الرقة من بحر قزوين، لكن هذه الضربة لم تكن إيذاناً ببدء حملة لتطهير المحافظة من الإرهابيين، بل أتت كإنذار ورسالة. إنذار الى “داعش” بأن “عاصمته” وُضعت على سكة التطهير، وإنْ في مرحلة لاحقة. رسالة الى واشنطن بأن القدرات العسكرية الروسية لا تعيقها الضغوط الأميركية على اليونان وقبرص وغيرها من الدول القريبة الى سوريا لإغلاق أجوائها بوجه الحملة الروسية.
الرقة القريبة من الحدود العراقية، والتي كانت مركز “دولة الخلافة الداعشية”، من المتوقع أن تصبح ملجأً ومعبراً لهروب عناصر هذا التنظيم الى الأراضي العراقية المجاورة. هروب عناصر “داعش” الشيشانيين والقوقازيين وغيرهم من تكفيريي جمهوريات الإتحاد السوفييتي السابق، ودخولهم الى العراق، سيكون سبباً مباشراً لتوسيع روسيا حملتها على الإرهاب من سوريا الى العراق بطلب من الحكومة العراقية الشرعية في بغداد أيضاً.
في الأصل، لا يخفي الروس هدفهم: ضرب “داعش” أنّى وُجِدت، في سوريا حالياً، ولاحقاً في العراق. ضربها لإنهائها لا لإنهاكها واحتوائها فقط. يعلم الروس أن لا غنى عن الأرض، أي أن لضربات الجوية وحدها لا تضمن تحقيق هذا الهدف. وعليه، تجوب الطائرات الروسية سماء سوريا على مدار ساعات النهار لضرب أي هدف ثابت أو متحرّك للإرهابيين، في انتظار انطلاق المعركة البريّة رسمياً.
تكنولوجيا متطورة: حسم سريع
أدخل الروس معهم الى سوريا، تكنولوجيا عسكرية فائقة التطوّر. تساهم هذه التكنولوجيا والأسلحة الحديثة، في تسريع الإنتهاء من العمليات في فترات زمنية قياسية. على الأرض، وبعيداً عن القوات الجوبة ومعدّاتها من طائرات متنوّعة الأحجام والمهام، يبلغ عديد القوات الروسية نحو 1000 عنصر وضابط، مع أكثر من 80 دبابة ومدفع ميداني، وعدّة فرق من القنّاصة.
للقنّاصة الروس سياستهم الخاصة. مثلاً، هم يعتمدون على “الآي باد” والتقنيات الحديثة في قنص الهدف، إذ يتم تركيز القنّاصة في مكان، والعنصر البشري العامل عليها (الرامي) في مكان آخر، بعيداً عن الخطورة. أما استراتيجية القصف المتّبعة روسياً، فهي تعتمد على مبدأ ضرب كامل جبهة العدو، مقدّمتها ووسطها ومؤخرتها. لا تعطي هذه الاستراتيجية أية فرصة لخطوط العدود لمساندة بعضها البعض، مهما كانت متباعدة. هذا بالضبط ما كان يسبّب في إطالة أمدّ المعارك من قبل.
يبدو جلياً أن روسيا تخوض الحرب في سوريا بجدّية عالية والتزام حازم. يقول الروس إنهم جاهزون للحرب في كل المنطقة. يستدلون على قدرتهم على ذلك بما يسمّونه “رسالة قزوين”. يجزمون أن “من يعنيهم الأمر” في العالم والمنطقة فهموا الرسالة، وأدركوا أن موسكو لن تتوانى عن استخدام أسلحتها “الاستراتيجية” في سبيل الإنتصار بحرب شرعية الموجبات نظيفة الدوافع.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي