فيما يضرب طبالة أردوغان دفوف النصر ويصدحون بالغناء المباح مهللين لإسقاط قراصنة الجو الأتراك طائرة حربية روسية، تجني موسكو ثمار نصر حقيقي أحبط خطط أنقرة والناتو.
فرغم مرارة واقعة إسقاط القاذفة الروسية، تستثمر موسكو قرصنة الأتراك وتكثف الإجراءات العسكرية الجوابية التي أتبعتها بعقوبات اقتصادية سيكون لها وقعها، ونصبت بالتوازي مع ذلك صواريخ “إس-400” لتحرم تركيا من التحليق شمال سوريا وتوصد الأجواء السورية في وجه أي هدف جوي مهما كانت سرعته وارتفاعه وهويته، وتنهي أحلام أنقرة والناتو في منطقة عازلة شمال سوريا بحجة إيواء اللاجئين فيها من “بطش النظام السوري وجيشه”.
وكما يبدو في ظل الواقع المستجد فإن موسكو اقتنصت هذه “الفرصة” التي دفعت ثمنها دم اثنين من عسكرييها، وسوف توظفها في الاقتصاص من أنقرة على ما دسته من سم في جسد روسيا عندما كانت ترسل المسلحين إلى الشيشان وتذكي نار حربها، وقبل ذلك على مر عصور العلاقات بين البلدين.
وبين الخطوات ذات الأهمية التي تبنتها موسكو فضلا عن تعزيز وجودها الجوي والبحري في سوريا، ولا يعيرها الإعلام الأهمية التي تستحقها، إعلان بوتين منح جميع العسكريين الروس المنخرطين في العملية الجوية البحرية في سوريا صفة “المشاركين في الأعمال العسكرية” الروسية خارج البلاد.
هذا الصفة، علاوة على الامتيازات الاجتماعية والضريبية التي تمنحها للعسكريين الروس بما يحفزهم على الالتحاق بالقتال، ويعزز مبدأ التزام الوطن بمكافأة عسكرييه المتبع في روسيا منذ القدم، تعني أن موسكو قررت البقاء في سوريا إلى أجل غير مسمى وأنها حصلت بأيدي قراصنة الجو الأتراك على تصريح تلقائي وملزم للبقاء في سوريا، سيتم توثيقه باتفاقات حكومية تبرمها مع دمشق.
ويعني قرار إضفاء هذه الصفة على العسكريين الروس كذلك، أن خطة توسيع مرفأ طرطوس لاستقبال السفن ذات الغاطس المائي الكبير قد بوركت في الكرملين، وأن نقطة الإسناد والإمداد الروسية في الساحل السوري قد تحولت بذلك إلى سيفاستوبول المتوسط، أسوة بسيفاستوبول البحر الأسود، معززة بمطار “حميميم” في اللاذقية الذي صار هو الآخر قاعدة جوية روسية.
أما الطبالة الذين احمرت أيديهم من ضرب الدفوف، وبحت أصواتهم جراء الغناء المباح احتفاء “بإهانة غير مسبوقة” للدب الروسي، يتغافلون على وقع صخب احتفالاتهم حقيقة أن أردوغان حينما ضرب العلاقات مع روسيا، لم يأبه بأهازيجهم ولم يطرب لها، بل كان يدافع عن مصالح ضيقة، وربما شخصية. وكما قالها بوتين علانية في قمة المناخ، فإن استهداف الطائرة الروسية جاء لحماية “توريدات” النفط اللاشرعية إلى تركيا، وأن حماية التركمان شمال سوريا ليست إلا ذريعة للحفاظ على هذه “التوريدات”.
ومنه، تكون تركيا في ضوء “الإهانة التي ألحقتها بالدب الروسي” حسب الطبالة والمريدين، قد تلقت ضربة ثانية توجهها لها موسكو في أسفل البطن منذ القرن الثامن عشر، حينما طردتها من القرم وألحقته بعائديتها بموجب اتفاق مهين ذيله السلطان بتوقيعه.
وبين التبعات ذات الأهمية التي انعكست على تركيا إثر هذا التطور، انكسار شوكة أردوغان بين رفاقه في إطار الناتو، حيث تبرأوا من فعلته الواحد تلو الآخر، بل صار بعضهم يخلع قبعة الكاوبوي ويلتحق بالعملية الجوية الروسية غير آبه بتحالف دولي أو غضب أمريكي قد يصل بالمغضوب عليه إلى التهلكة واندلاع ثورة في بلاده ربما تكون مخملية أو أورنجية أو ملونة على أدنى تقدير.
ورغم ذلك، فإن أردوغان لم ييأس بعد من محاولات إقحام زملاء الناتو في حرب مع روسيا، فيما هم يؤكدون له بصراحة أنهم وبلدانهم في غنى عنها، وقرر إرسال غواصتين إلى شرق المتوسط للتحرش بطراد “موسكو” الروسي الذي يلقبه رفاق الأطلسي بقاتل الغواصات.
السؤال، هل وصل الوجد بأردوغان إلى درجة إرغام بحارته على شن هجوم انتحاري على “موسكو”؟ وإذا وقع هذا العمل الانتحاري فهل الرفاق سيسعفونه، أم سيتبرأون من الولد الضال بلا رجعة ويبرزون له بندا أو آخر في معاهدة الأطلسي ترفع عن تركيا صفة البلد الحليف الذي تعرض لعدوان خارجي ينبغي صده؟ وكيف لأردوغان أن يثق بحلفائه بعد أن خذلوه في المنطقة العازلة، وقالوا له إنها تبخرت، ولا محل للتلويح بالسيوف بعد اليوم، بل على بلادك استقبال اللاجئين الذين لم يبق لهم منطقة عازلة يعودون إليها، كما ينبغي عليكم ضبط الحدود لمنع تسلل الإرهابيين تحت ستار اللجوء إلى أوروبا؟
خطوة أردوغان المتسرعة لم تترك بصيص أمل لمن كانوا يعولون على أنقرة بغض النظر إذا كانوا مسلحين “متشددين” أو “معتدلين” حسب التصنيفات الأمريكية، أو معارضين ووسطيين عاديين بلا سلاح يقبلون متحفظين بالتفاوض مع دمشق.
خطيئة إسقاط الطائرة الحربية الروسية والتي حيكت بخيوط براقة تظهر على ثوب السلطان، مدبرة وتم التخطيط لها بشكل مدروس ومسبق لتغيير كل مسارات التسوية في سوريا، لكن أثرها كان عكسيا، إذ ستطلق عنان القوات الحكومية السورية لتبقي هي على الجهة التي تراها معارضة تصلح أن تكون طرفا تجلس إليه دمشق وتتفاوض.
واستنادا إلى ذلك، يبدو أن الإدارة التركية لم تقدم على هذه المغامرة إلا بعد بلوغها حالة الوجد التي ينشدها الدراويش، وجد استحوذ على منطقها بعد انتهاجها سياسة إمبرالية لم تعد تلبي متطلبات المرحلة.
الصورة اتضحت، وانكشف المستور الذي طالما حاولت إدارة بوتين تجاهله تقديما للمصالح الاقتصادية مع أنقرة وأملا في أن يتبدل حال “السلطنة” وتقلع عن مؤامراتها وتتخلى عن كيدها الذي استولى عليها واستحوذ على ألباب ولاة وسلاطين اسطنبول وأنقرة منذ القدم.
صفوان أبو حلا
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي