مطران قبرص لـ«الجمهوريّة»: موارنة الجزيرة يخشون ضياع حقوقهم في المفاوضات

ألان سركيس-

تُطلّ قضيّة القرى المارونيّة الأربع المهجّرة في جزيرة قبرص مجدّداً على وقع المفاوضات بين قبرص اليونانية وقبرص التركيّة التي تحصل برعاية الأمم المتحدة، في وقت يخشى موارنة الجزيرة أن تضيع قضيّتهم وألّا يحصلوا على حقّهم بالعودة الى قراهم. وفي هذا السياق أجرت «الجمهوريّة» حديثاً شاملاً مع رئيس أساقفة أبرشيّة قبرص المارونيّة المطران يوسف سويف، تناول فيه أوضاع الموارنة في الجزيرة ودورهم في الحياة الوطنية وأزمة القرى المارونية المهجّرة ودور لبنان والبطريركيّة المارونية في هذه القضية وفي طرحها مع الأتراك.

تأزَّم وضعُ الموارنة منذ العام 1974 بعد سيطرة تركيا على القسم الشمالي من قبرص، حيث بقيَ قسم قليل منهم في المنطقة الشمالية، ضمن «القرى المارونية الأربع» وهي: كورماجيتي، آيا مارينا، كارباشا، وأساماردوس، التي لم يبقَ فيها إلّا المسنّون.

وتمهيداً للمفاوضات المرتقبة، كان لنا حديث مع المطران سويف:

• كيف تصف الحضور الماروني في قبرص؟ وهل ما زال الموارنة يحافظون على جذورهم اللبنانية؟

– الحضور الماروني في قبرص يعود الى نحو 1200 عام، وهو في الذاكرة التاريخيّة والإجتماعيّة والكَنَسيّة لموارنة قبرص ومرتبط بلبنان وبلدان المنطقة التي أتوا منها. خلال المراحل التاريخيّة لم تنقطع العلاقة الكَنَسيّة والفكريّة والإجتماعيّة بين موارنة لبنان وقبرص.

وفي التاريخ المعاصر، منذ الستّينات حتى يومنا، لطالما كان الحضور والتواصل دائمين والزيارات مستمّرة ولا سيّما خلال الحرب اللبنانية، حيث كانت جزيرة قبرص ملجأ الكثير من اللبنانيّين ومن بينهم الموارنة، وذلك ليس فقط لقربها بل لأنّ التاريخ يشهد لعلاقة الصداقة بين البلدين.

أما من الناحية الكَنَسيّة، فقد كانت أبرشيّة قبرص تبدأ من الجزيرة وتنتهي في منطقة المتن، لذلك إداريّاً وروحيّاً كان الإرتباط دوماً قائماً وهذا ما كان يسمح بالتواصل والزيارات المشتركة.

منذ العام 1988، ومن أجل تعزيز الرعاية ونظراً لخصوصيّة قبرص الجيوسياسيّة كونها عضواً في الإتحاد الأوروبي، قُسِّمَت الأبرشيّة الى إثنتين: أبرشيّة قبرص وأبرشيّة إنطلياس. في هذه المرحلة أيْ في عهد المطران بطرس الجميّل وفي برنامجنا الرعويّ، عزّزنا ونشجّع هذا التواصل.

إنّ هذه الأبرشيّة المارونيّة الصغيرة لها حضور مارونيّ ومشرقيّ في المجالس الكَنَسيّة الأوروبيّة، ما يخلق لدى سائر أعضائها شوقاً للتعرّف الى تراث كنائسنا المشرقيّة واختبارها الديني وإرثها الوطني والثقافي.

فموارنة قبرص يزورون لبنان على مدار السنة، للقاء البطريرك والحجّ الى الأديار من مار شربل والقديسة رفقا والقديس نعمة الله، وغيرها من الأماكن المقدّسة، الى وادي قاديشا – قنّوبين والأرز والديمان إذ تشكّل كلّها معالم روحيّة رمزيّة يجدّد الموارنة من خلالها إيمانهم وهويّتهم.

في المقابل شهدنا في السنوات الأخيرة زيارات من لبنان، من رعايا وكهنة وعلمانيّين ومن منظّمات ومؤسّسات لبنانيّة ومارونيّة خصوصاً، إلى قرانا المارونيّة الأربع: كورماجيتي، أسوماتوس، آيا مارينا وكارباشا للقاء أبنائنا.

ويهمّنا من خلال برامجنا الرعويّة والكَنَسيّة والإجتماعيّة والثقافيّة تطوير اللقاء الماروني اللبناني – القبرصي، والتفاعل اللبناني – القبرصي الذي يعود بالخير على البلدين ويُعزّز موارنة قبرص الذين يشعرون بأهميّة إنتمائهم الى المارونيّة العالميّة حيث يشكّل لبنان رمزَ لقائها وحضورها ورسالتها. في هذا السياق موارنة قبرص هم جسر بشريّ حيويّ لعلاقة الصداقة بين البلدين وهو الرمز الأوّل للإنتشار الماروني واللبناني.

الموارنة جزءٌ من المجتمع القبرصي

• كم يبلغ عدد الموارنة في قبرص تقريباً؟ وهل لهم دورٌ مهمّ داخل التركيبة القبرصية؟

– يُعَدّ الموارنة نحو 10 آلاف في الجزيرة ولهم دور أساس في بناء الدولة، فهم جزءٌ لا يتجزّأ من المجتمع القبرصي، وهم أقليّة تُدرك انتماءها إلى المجتمع القبرصي ومساهمتها في بناء دولة قبرص. من جهتها، الحكومات أدركت تِباعاً أهميّة دور الموارنة ونظرة المجتمع القبرصي الإيجابيّة تجاههم لما لجماعتنا من جدّية في التعاطي على المستويَين الفردي والجماعي في الحقلين الخاص والعام.

فمنذ إستقلال قبرص عام 1960 حتى اليوم، كان للموارنة حضورٌ في مجلس النّواب وفي مرافق حكوميّة متعدّدة، وفي الآونة الأخيرة، هناك وزير ماروني لامع في إدارته لملفّات النفط والصناعة والسياحة.

وبالتالي تتمتع الأقليات بمواقع سيكولوجيّة وأنتروبولوجيّة وثقافية فتضاعف جهودها لتحافظ على دورها وتطوّره من أجل بقائها وإستمراريّتها ومن أجل الخير العام.

هناك ضرورة لإعادة النظر في صلاحيّات ممثّل الجماعات الدينيّة المارونيّة والأرمنيّة واللّاتينيّة في البرلمان بحيث ينتقل من موقع العضو غير الفاعل الى العضو الفاعل، فيشارك في التصويت ولا يكتفي بعرض مشكلات وطروحات جماعته تحت قبّة المجلس.

إلى ذلك، أودّ أن أنوّه الى الإختبار الذي يُعاش على مستوى قبرص ببعده المسكوني أيْ من خلال التواصل مع الكنيسة الأرثوذكسيّة والكنائس الأخرى وهو يتخطّى أشكالاً بروتوكوليّة ليصبح عيشاً يوميّاً للأخوّة في المسيح.

بالإضافة إلى الحوار القائم بين الكنائس المسيحيّة والديانة الإسلاميّة عبر كبير المفتين في قبرص. إنّها فسحة ثقافيّة ودينيّة وإنسانيّة جميلة جدّاً نعالج فيها صعوبات عمليّة ونجهد جميعاً لإيجاد الحلول وهدفها إعادة إحياء أماكن العبادة بغية تسهيل الوصول إليها وفتحها أمام المؤمنين ما يُعزّز روابط الثقة والأخوّة بين أبناء قبرص.

محادثات بين قبرص اليونانية والتركية

• لقد زار ممثل الموارنة في البرلمان القبرصي النائب أنطونيوس حاجي روسوس لبنان لعرض القضية، لماذا توقيت فتح هذا الملف الآن؟

– تشهد هذه السنة محادثات بين قبرص اليونانية والتركية بشكل جدّي ومُعَمّق برعاية الأمم المتحدة، من هذا المُنطَلق يخشى الموارنة عدم الحصول على مطلبهم الأساس وهو العودة إلى قراهم، وذلك ضمن التقليد التاريخي والثقافي واللغوي مع بقائهم جزءاً أساساً لا يتجزّأ من الجماعة القبرصيّة اليونانيّة لأسباب عدة، ومنها أنّ الموارنة يتكلّمون اللغة اليونانية وهي لغتهم الأساس على رغم أنّ لغتهم الليتورجية الكَنَسية والطقسيّة هي السريانية، وأحياناً العربية، ولكنّ لغتهم اليومية واللغة الأم هي اليونانيّة إضافة إلى الزيجات المختلطة والمدارس والجامعات ومجالات العمل.

كلّ هذه العناصر الثقافية والإجتماعية والدينية تجعل الموارنة يطالبون تقريباً بالانتماء خلال مرحلة قبرص الجديدة الى جماعة قبرص اليونانيّة بروحيّة الإنفتاح على القبارصة الأتراك وكلّ مكوّنات المجتمع القبرصي.

دورُ لبنان

• ما هو دور الدولة اللبنانية في هذه الأزمة مع العلم أنّ القرى هي قبرصية والمواطنون الموارنة هم قبارصة أيضاً؟

– الموارنة في قبرص يتحدّرون من جذور لبنانية ومن المنطقة المحيطة بالجزيرة، فكانت أبرشية قبرص المارونية تبدأ جغرافياً في الجزيرة وتنتهي في جزءٍ من منطقة المتن. وإلى الأسباب الجيو- كَنَسيّة والجغرافية، ينتمي موارنة قبرص الى الكنيسة المارونية حيث البطريرك والمقرّ البطريركي، وبالتالي يلجأ الموارنة الى البطريركيّة بشكل تلقائي وعفوي كما يلجؤون الى الفاتيكان والى دول أخرى لمناقشة قضاياهم ولا سيّما المصيريّة منها.

من هنا، إنّ طلب هذه الأقليّة من لبنان التدخّل في بعض قضايا موارنة قبرص يهدف الى السعي لتأمين مقوّمات البقاء في المرحلة المقبلة التي نأمل أن تكون مرحلة إعادة توحيد الجزيرة حيث للموارنة وكلّ الأقليات دورٌ أساس في تفعيل المجتمع انطلاقاً من ثقافتهم وثوابتهم التاريخيّة والثقافيّة والدينيّة.

• ما هو دور الدولة القبرصية وهل يبذل المسؤولون القبارصة جهداً لمساعدتكم؟

– نأمل خيراً من المحادثات القائمة بين القبارصة برعاية الأمم المتّحدة وفي أن تنال دعماً وتأييداً من اليونان وتركيا والإتحاد الأوروبي من أجل حلّ مشكلة الجزيرة، التي بطبيعتها وبيئتها وموقعها الجيوسياسي والإستراتيجي يمكن أن تشكل فسحة إنسانيّة وإجتماعيّة ودينيّة لتشهد لحضارة المحبة والأخوّة ويمكن أن تكون واحة السلام والمصالحة والتلاقي من أجل استقرار ونموّ مستقبل الشباب في بيئة ومجتمعات ليست بعيدة من بلدان تتخبّط في الحروب والإنقسامات وتسير وراء منطق التطرّف.

• هل تتخوّفون من إقحام لبنان في هذه الأزمة وأن تتوتّر العلاقات اللبنانيّة – التركية إذا ما دخل لبنان على خطها؟

– على الدول أن تتحاور وتنزع من فكرها منطق الخوف من الآخر وتنشر ثقافة الحوار المبني على العدالة والمحبة والمصلحة العامة والإهتمام بالفقير والمتألِّم الذي لا يمكن أن يُخيف لا المسؤولين ولا الأفراد والدول لا بل هو السبيل الوحيد والأضمَن من أجل استقرار إجتماعي وسلام وأمن ثابت في المجتمعات.

تأثير بكركي

• هل يستطيع البطريرك الراعي التأثير والتدخّل إيجاباً لحلّ هذه الأزمة؟

– لا شكّ في دور البطريركية، وغبطة أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي يحمل ملفّ موارنة قبرص في قلبه وفكره، ونحن نطلعه دوماً على مستجدات الملفّ الماروني في قبرص وهو من خلال اتصالاته الإقليميّة الدوليّة يحرّك هذه المسألة. فموارنة قبرص جزءٌ من أبناء البطريرك وعزيزون على قلبه، وهنا أذكر أنّ زيارة البطريرك الأولى خارج لبنان بعد استلامه مقاليد البطريركية كانت إلى أبرشية قبرص، إذ زار الرعايا والقرى المارونية وبكى مع الناس الذين يبكون الواقع المؤلم وفرح مع الذين يفرحون ويأملون في العودة الى القرى وإيجاد حلّ للمجتمع القبرصي.

• هل يخضع الحلُّ لموازين قوى إقليمية خصوصاً أنّ خريطة المنطقة تُرسم مجدّداً والأتراك في قلب الاحداث؟

– بالنسبة الى موازين القوى الإقليميّة، فالجماعة المارونية جزءٌ لا يتجزّأ من المجتمع القبرصي ولا شكّ في أنهم سيدخلون في الحلِّ الشامل لمسألة قبرص والذي نأمل أن يكون منسجماً مع مطالبهم وتطلّعاتهم وهي إنفتاحهم على الجميع إنطلاقاً من انتمائهم الى الجماعة القبرصية اليونانية.

إرتباطُ الموارنة بالأرض والقرية هو أساسُ وجودهم، ومطلبهم المباشر الى حين بلوغ الحلِّ الشامل هو أن تُفتَح أبوابُ بعض القرى فيعود إليها أبناؤها حيث يحفظون أرضهم، لأنه خارجَ القرية والارتباط التاريخي بالأرض يواجه الموارنة خطرَ الذوبان في المجتمع الكبير ما يؤدّي الى نتائج سلبيّة على مستوى الأجيال المارونيّة المستقبليّة واستمراريّتها في انتمائها الى قراها القبرصيّة المارونيّة والحفاظ عليها.

لا تفاوض مباشراً

• هل يحصل تفاوض مباشر مع الاتراك في شأن القرى المارونية الأربع؟

– لا تفاوض مباشراً مع الأتراك بشكلٍ كلاسيكي لأنّ التفاوض الأساس يتمّ بين مكوّنات المجتمع القبرصي. فالموارنة جزءٌ من القبارصة اليونان ومنفتحون على القبارصة الأتراك. ما من مفاوضات مباشرة، لكن عندما زار البطريرك الراعي تركيا كنتُ من عداد الوفد المرافق وتطرّقنا الى موارنة قبرص وأهميّة مساعدتهم للعودة الى قراهم من أجل الحفاظ على وجودهم وهويّتهم.

• ما هو مستقبلُ الوجود الماروني في قبرص؟

– مستقبلهم في يد العناية الإلهيّة وبإرادة الموارنة الذين جاهدوا وضحّوا عبر القرون الماضية ليبقوا حتى يومنا. يعود حضورُ الموارنة في قبرص إلى آلاف السنين وسيبقى إن شاء الله لأنّ البقاء مرتبط بالإيمان والإرادة والجدّية في العَيش والعمل التي يتميّز بها الموارنة أبناء الرجاء والتطلّع، فهم أبناء الأرض، وسيظلّون في الجزيرة علامة لشهادة المحبّة والتفاعل بين أبناء المجتمع القبرصي، علامة تساعد قبرص في تثبيت ميزتها المبنيّة على التعدّديّة التي تُعاش في وحدة أبناء الجزيرة.

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة