هافينغتون بوست عربي –
عندما كان أندرو في سن 14 شهراً تم تشخيص حالته بأنها نوع من سرطان الدم، نوع نادر للغاية لدرجة أن الفريق الطبي المُعالج قال إن الإصابة به تماثل أن تعضك سمكة قرش وتضربك صاعقة في آن واحد.
وسرطان الدم هو نوع من السرطان الذي يصيب خلايا نخاع العظم المسؤول عن إنتاج خلايا الدم الجديدة، وله أنواعٌ كثيرة؛ ولكن النوع الأكثر شيوعاً لدى الأطفال هو سرطان الدم الليمفاوي الحاد، وهو قابل للشفاء بشكل عام، وفق مقال لميلاني ثيرنستروم نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
السرطان الذي أصاب أندرو كان نوعاً فرعياً من أنواع سرطان الدم الحاد، ويصيب نحو 45 طفلاً سنوياً على مستوى البلاد، ويُعد علاجه مسألة أكثر صعوبة، واحتمالات البقاء على قيد الحياة مع الإصابة بهذا النوع من السرطان تعادل 50%، إلا إذا كان الطفل المُصاب واحداً من الذين يمتلكون نمطاً جينياً مُحدداً يُخفض احتمالات النجاة إلى نسبة واحد من كل 10 مرضى، وقد كشف التحليل الجيني أن أندرو كان واحداً من تلك المجموعة الصغيرة.
كان هناك المزيد من الأخبار السيئة؛ فبعد أسبوعين من التشخيص، تلقى الطبيب المُعالج لأندرو، نورمان لاكايو، طبيب الأورام في مستشفى لوسيل باكارد للأطفال بجامعة ستانفورد، مكالمة هاتفية عاجلة من مايكل لوكن، رئيس مُختبر “هيماتولوجيكس”، الذي كان يجري تحليل خلايا أندرو.
اكتشف لوكن مؤخراً أن نسبة ضئيلة من الأطفال الذين يعانون هذا النوع من السرطان لديهم نمط خلايا محدد، نمط من البروتينات على سطح خلايا سرطان الدم، سُميت بحسب الأحرف الأولى من اسم مريض سابق (R.A.M)، وينبئ ذلك بنتيجة شديدة السوء، حيث إن معدل البقاء على قيد الحياة بين من يُعانون تلك الحالة يعادل حالة واحدة من كل 6 مُصابين، وكان أندرو واحداً ممن لديهم ذلك النمط أيضاً.
“هل نجا أي شخص من هذا النوع من السرطان من قبل؟”، كان ذلك هو السؤال الذي وجهه دان، والد الطفل، إلى لاكايو الطبيب المعالج. متذكراً تلك المحادثة يقول دان “كل ما أردت معرفته هو أن الأمر ليس مُستحيلاً”، وكان رد الطبيب لاكايو هو “نعم”، ومع ذلك شعر دان بأن تلك الإجابة “ضبابية”، والحقيقة هي أن الفريق الطبي لم يتمكن من إيجاد حالة واحدة مماثلة في أي من السجلات الطبية.
بدأ الأمر في صباح ذلك اليوم من ديسمبر/كانون الأول عام 2014، عندما أخذت الأم إستر طفلها أندرو إلى المشفى، وحينها شعرت كما لو كانت في فيلم من أفلام الرعب، فما كان يجري من أحداث كان سريالياً وشريراً. حتى تلك اللحظة كان إستر ودان يعيشان “حياة ساحرة”، بحسب كلماتها.
القليل فقط من الناس سيقول بصدق إن شيئاً سيئاً لم يحدث لهم من قبل. وقبل التشخيص، كان إستر ودان بين هؤلاء، فعندما أصاب المرض ابنهم أندرو كان كلاهما في منتصف الثلاثينات، وكانا مفعمين بالحيوية، متفائلين ومُنفتحين على العالم. كلاهما كان قد درس بجامعة ستانفورد – فتخصص دان في الهندسة الصناعية، أما إستر فتخصصت في البيولوجيا البشرية، مع شهادة في الرقص، قبل الخوض في مستقبلها المهني الناجح.
وكان دان حينها قد أسس شركة ناشئة في مجال الرياضة، ثم أصبح نائب رئيس مجموعة تجارية صغيرة على فيسبوك، فيما عملت إستر لدى شركة كوربو، وهي شركة ناشئة تركز على التحكم في الوزن لدى الأطفال، وكانت تُدرّس الأنشطة الرياضية في مركز للجالية اليهودية من أجل المتعة. وكانت عائلاتهم مستقرة ومتماسكة؛ فلكي يتذكر أي منهم شدائد حقيقية لحقت بعائلاتهم، عليهم العودة إلى ذكرى جدة دان، التي لقى أفراد أسرتها حتفهم في محرقة اليهود.
بمجرد تشخيص مرض أندرو، كان في حاجة لإجراء عملية زرع نخاع في أسرع وقت ممكن. وفي البدء كان على الأطباء قتل خلايا سرطان الدم في نخاع عظام أندرو بالعلاج الكيميائي، ثم استبدالها بخلايا المتبرع، وقد أُجري الاختبار على أشقاء أندرو، “ليا” البالغة من العمر 3 سنوات، و”ويلز” البالغ من العمر 5 سنوات.
ولأول مرّة يحالف الحظ العائلة منذ تشخيص المرض، فقد تبين أن “ويلز” يُعد متبرعاً مُلائماً مثالياً. خضع أندرو لجولتين من العلاج الكيميائي، ولكن بعض آثار السرطان كانت باقية حين أُجريت عملية الزرع في فبراير/شباط 2015، ما جعل نتائج الجراحة عرضة للفشل.
أعدت العائلة موقعاً إلكترونياً للدعم، يسجل فيه الأصدقاء لمنح ساعات من وقتهم للعب أو توصيل وجبات الطعام، وأعدّوا كذلك مجموعة بموقع فيسبوك لنشر التحديثات المتعلقة بمرض أندرو، فانضم نحو 1700 شخص للمجموعة.
على الرغم من كل الدعم، كان لدى إستر شعور عميق بالوحدة في تلك التجربة، بحسب ما تقول، فقد تلاشت حياتها السابقة، وصارت تعيش مع أندرو في غرفة المستشفى، تنام على أريكة يتم فتحها لتصبح سريراً، وتركت عملها وباقي أفراد العائلة، فيما كان دان يواصل العمل ويعيش بالمنزل مع “ويلز” و”ليا”.
كانت صرخات أندرو تتخلل لياليها. وكانت تقضي أيامها في محاولة محمومة لإراحته من الألم والغثيان، وفي تنظيف قيئه، وفي الإمساك بيديه وقدميه عند سحب عينات الدم منه، وفي اتخاذ قرارات طبية صعبة. كان أندرو يصرخ إن تركته لبضع دقائق حتى إن كان ذلك للذهاب إلى المرحاض أو للاستحمام.
وبعد أن أمضى إستر وأندرو 3 أشهر في المستشفى، انتقلت الأسرة بالكامل إلى شقة مجاورة، للعيش في مساحة أصغر بإمكانهم الإبقاء عليها معقمة بينما ينتظرون تطور جهاز أندرو المناعي، وظلت إستر بمثابة ممرضة تعمل بدوام كامل لدى أندرو، فقد كانت مسؤولة عن نظام معقد من الأدوية والتعقيم.
اختبار النخاع العظمي بشهر أبريل/نيسان أظهر أنه لا أثر للسرطان، واعتُبِر أندرو في حالة شفاء، ونشرت العائلة مقطعاً مُصوراً له يقرع فيه طبلته ويُغني مع لعبته “إلمو” ويتظاهر بأنه يلعب الغولف.
قرروا أنه عندما يكون أندرو في حال أفضل فلن يعودوا إلى منزلهم القديم، وسيبدأون حياة جديدة. عثروا على منزل جديد في مدينة أثيرتون القريبة ذات الطابع الريفي الإنكليزي، وكان المنزل محاطاً بسياج وشجيرات الورد الأبيض، ما أمّن له الكثير من الخصوصية والأمان. كان أندرو متحسساً للغاية من مغادرة الشقة، لذلك لم تتمكن إستر من رؤية المنزل الجديد بنفسها، إلا أنهم قرروا شراءه في جميع الأحوال، وقامت بالتخطيط لعمل غرفة تشبه الطائرة من أجل أندرو بمساعدة صديقة تعمل مصممة ديكور.
في 19 يونيو/حزيران، أخبر الفريق الطبي كلاً من إستر ودان بأخبار سيئة أخرى، لقد عاد السرطان ليضرب أندرو من جديد، وعلى الرغم من أن عدد الخلايا السرطانية كان قليلاً، إلا أنه سيزداد بشكل حتمي كما ذكر الأطباء. قدم الفريق الطبي خطة جديدة، حيث قرروا بدء العلاج الكيميائي من جديد تمهيداً لعملية زرع نخاع عظمي ثانية، ربما باستخدام دم الحبل السري هذه المرة.
“يا إلهي”. هكذا قالت إستر وقد وضعت يديها على رأسها، حيث شعرت بأنها لا تستطيع أن تمر بكل ذلك مرة أخرى، وهذه المرة لم يكن هناك ما يدفعها للاعتقاد بأن الأمر سينجح. كانت احتمالات نجاح العملية الأولى مرتفعة، وتبدو احتمالات الثانية أكثر من الأولى، إلا أن إستر قالت: “ولكن احتمالات أن يسبب لنا الأمر المزيد من المعاناة كانت 100%”.
بعد التشخيص الأوليّ وضع دان هدفاً وهو ليس فقط مساعدة أندرو على النجاة، بل أيضاً الحفاظ على الأسرة. خيار العودة إلى المستشفى كان يعني بالنسبة لهم أن أندرو قد يموت، “وهو كان بمثابة انتهاك كبير لكل الوعود التي قطعناها على أنفسنا وأطفالنا أن نكون معاً من جديد”، هكذا قال دان. وأضاف: “لن يمكن إصلاح الأمر هذه المرة إذا قمنا بتفريق أسرتنا مرة أخرى”، وهنا قرروا إيقاف العلاج، والانتقال إلى منزلهم الجديد، الذي سيقضي فيه أندرو ما تبقى له من وقت في المسبح واللعب على العشب مع “ويلز” و”ليا”.
كان الأطباء مذهولين من القرار، حيث قالت جينيفر ويلارت، الطبيبة المسؤولة عن عملية زراعة النخاع الشوكي في جملة مفاجئة: “نحن نحبكم، ونحب أندرو، ولسنا مستعدين للاستسلام”. حاول لاكايو وويلارت إقناع الوالدين باستخدام العلاج الكيميائي المخفف في محاولة لتمديد حياة أندرو، وهنا شعر إستر ودان بشيء من التردد، إلا أنهما رفضا بشكل قاطع. قاما باستدعاء صديقتهما المتخصصة بالديكور لتجهيز غرفة أندرو الجديدة، حيث كانت تلك الصديقة أول مَنْ عرف بهذه الأخبار الأخيرة: أندرو سيموت!
أعلن الزوجان عن قرارهما في 22 يونيو/حزيران، وشرحا وجهة نظرهما وطلبا من أصدقائهما ألا يناقشوا خياراتهما أو يقترحوا أية خيارات علاجية أو أن يحدثوهما عن الخطط الربانية أو إخبارهما بأن هناك أمل. تقول إستر: “كنت أومن بصدق أن لديّ نظرة جديدة للأمومة، ولم يكن المهم بالنسبة لي طول فترة الحياة، ولكن جودة وطريقة تلك الحياة. سنركز على الجودة”.
ربما يكون الحديث عن حياة جيدة لطفل محطم كأندرو ضرباً من مستحيل. في هذا الوقت، كانت الخلايا السرطانية قليلة للغاية ولم تسبب لأندرو أي مرض يُذكر، ولكن إستر كتبت قائلة: “لا أستطيع أن أفكر في شيء أكثر ألماً من قضاء الوقت مع صغيري العزيز وأنا أعلم أنه سيموت قريباً”. واصلت إستر حديثها: “أنا لا أقوم بتربيته الآن ليكبر ويصبح شخصاً صالحاً”.
هنا، بدأ الطفلان الأكبر سناً يسألان أسئلة مؤلمة. أرادت “ليا” أن تعرف ما إذا كان سيمكنهم شراء دمية معينة لأندرو عندما يصل لعامه الرابع مثلها؟ بينما “ويلز” أراد أن يعرف لماذا قرر الوالدان إنجاب أندرو إن كانا يعلمان أنه سيكون مريضاً طوال الوقت؟
قرأ “دان” عليهما كتاب “مو ويليامز” الذي يحمل عنوان: “الانتظار ليس سهلاً!”، والذي يحكي قصة فيل لا يتحلى بالصبر. وأثناء قراءته كان يفكّر في ذاك الانتظار الذي عصف بهم طيلة الأشهر التسعة الماضية.
كان عليهم الانتظار للحصول على التشخيص السليم، ثم انتظروا 100 يوم لتنمو الخلايا التي تمت زراعتها ثم انتظروا النتائج من جديد للتأكد من أن السرطان قد اختفى. كتب دان على فيسبوك: “لا مزيد من التشخيصات الآن. لا اختبارات أخرى أو محطات جديدة، ليس هناك سوى الانتظار، ربما لساعات، أو أيام، أو أسابيع”. وأضاف: “هذا هو الأكثر ألماً بالنسبة للجميع: انتظار موت أندرو”.
في الأول من يوليو/تموز، انتقلت الأسرة إلى منزلها الجديد، وبدأ أندرو يشعر بالمرض. بحلول عطلة نهاية الأسبوع، كان يئن ويصرخ من الألم طوال فترات استيقاظه، وهنا توجّب على دان الحصول على إجازة من عمله، كما قامت إستر بالاعتناء بأندرو طوال الوقت، حيث كان جسده لا يفارق جسدها على الإطلاق. كان دان يأخذ الطعام لأندرو إلى سريره، إذ لم يعد بإمكانه الذهاب لطاولة العشاء. بدأ شعر إستر يتساقط بسبب الضغط النفسي، حيث تقول: “لقد كان الأمر لا يُحتمل بالنسبة لأندرو وبالنسبة لنا”.
ss
بدأ فريق طبي بزيارات يومية لأندرو لمحاولة السيطرة على الألم من خلال جرعات عالية من المواد المخدرة. هارفي كوهين، طبيب الأرق والمدير الطبي لبرنامج الرعاية بالمستشفى، شرح لهم بأنه مع تطور المرض لن تكون هناك صفائح دموية كافية في دم أندرو من أجل عملية التجلط، كما أخبرتهم إحدى الممرضات بشراء مناشف داكنة اللون لسرير أندرو، حتى إذا نزف بشكل لا يمكن التحكم فيه يصبح المنظر أقل رعباً بالنسبة لإخوته.
في الأسبوع الثاني من يوليو/تموز، طلب الفريق الطبي منهم أن يستعدوا لموت أندرو الوشيك. اتصلوا بحاخام، ومدركين كم أحب أندرو الطائرات، اختاروا مقبرة يهودية بالقرب من المطار. لم يكن الأبوان يرغبان في أن يُدفن أندرو وحده، لذلك قررا شراء قبرين لهما بالقرب منه، كما قاموا بتأسيس صندوق تذكاري باسم أندرو ليفي من أجل جمع المال للعلاج بالموسيقى في مستشفى لوسيل باكارد للأطفال.
قام أعضاء الفريق الطبي بزيارة لمنزلهم لإلقاء كلمة وداع. توقف أندرو عن تناول الطعام، وكان يتحرك بالكاد، وبدا تنفسّه صعباً ولونه شاحباً، وهو ما يعرف الفريق، من خلال خبرته مع مثل هؤلاء الأطفال، أنه علامات موت وشيك. في بعض الأحيان كان تنفس أندرو يتوقف لحظياً، كما كان جسمه يتصلب في بعض الأوقات ويتحول وجهه للون الأزرق. قالت له إستر: “يمكنك الذهاب الآن”، كان كل ما ترغب فيه هو أن ينتهي ذلك بسرعة.
قام الأبوان باستدعاء “ويلز” و”ليا” إلى غرفة المعيشة، وهي غرفة نادراً ما كانا يدخلانها. جذبتهما إستر قريباً منها على الأريكة، في حين جلس دان بالقرب منهما على الأرض. كانوا قد جهزوا بالفعل لما سيقولونه بمساعدة باربرا سوركيس، وهي صديقة وطبيبة نفسية بأحد المستشفيات. قاما بتسجيل تلك اللحظة صوتياً لاحتمال مناقشة الأمر معها في وقت لاحق.
أخبر دان الأطفال بأن عملية الزراعة كانت ناجحة، وأن خلايا “ويلز” قد قامت بمهمة عظيمة، إلا أن خلايا أندرو قررت العمل وحدها، وهو ما لم تقدر عليه. وقال دان: “المشكلة أن جسده لا يعمل”. كان دان مباشراً في تلك الجملة قدر ما استطاع، وهنا سأله ويلز: “هل سيصبح أندرو على ما يرام؟”، فأجابه دان قائلاً: “الأطباء لا يعتقدون ذلك يا ويلز، يبدو أنه لن يكون كذلك”.
كانت الطبيبة سوركيس قد نصحتهما بأن يخبرا الطفلين بما يحتاجان لمعرفته فقط وألا يؤلماهما أكثر من اللازم؛ لأن الطفلين يحتاجان لمساحة عاطفية للتعامل مع الأشياء بطريقتهما الخاصة. قال دان: “أندرو سيموت في وقت ما. نحن لا نعلم متى”.
في هذا الوقت، بدأت “ليا” بالصراخ والبكاء قائلة: “لا أريد أن يموت أندرو”، في حين قام “ويلز” بتغطية رأسه بقميصه، وقال إنه لا يرغب في التحدث حول الأمر. قالت “ليا” بحزن: “أندرو سيموت، هذا يعني أننا سنكون 4 فقط في العائلة”. ثم سألت أبويها إن كان بإمكانهما أن ينجبا طفلاً جديداً لاستبدال أندرو، وهنا بدأت هي وويلز في تخيل طفل جديد أفضل في كل شيء.
تحدثت إستر عن أندرو بعد ذلك، حيث قالت: “أعدكم بأننا لن ننساه، سيكون لكما دائماً أخ أسمه أندرو لأنه أخوكم دائماً، الآن وللأبد”. قالت ليا: “سيبقى حب أندرو في قلوبنا”. ثم قرر الجميع مشاهدة فيلم كارتوني لميكي ماوس سوياً.
أصبح السهر ممتداً في الصيف، وبدأ يظهر ما وصفوه بـ”السراب”. في آخر شهر يوليو/تموز، كانت إستر تجلس في الخارج مع باربرا سوركيس، وهي تحمل أندرو بينما تشاهد ويلز يلعب كرة السلة. فجأة، وقف أندرو وتحرك نحو الكرة وتمكّن من رميها نحو طوق كرة السلة الصغير الخاص به. وقفت إستر وباربرا صامتتين أمام المشهد.
كانت فترة “السراب” وجيزة للغاية، إلا أنهم استطاعوا خلالها مشاهدة بعض ضحكات أندرو أثناء مزاح ليا معه، ربما لـ10 لدقائق في اليوم، قبل أن يعود مجدداً إلى الألم والخمول بقية اليوم. بعد ذلك، بدأت تلك الدقائق القليلة تصبح أطول، إلا أن الأمر بالنسبة لإستر لم يكن معجزةً، بل بدا لها وكأنه خدعة شيطانية، حيث كانت تدخل في نوبات غضب شديدة. تقول: “بدأت أتساءل كيف سيمكننا تحمّل كل هذا؟ هل بقيت لدينا قدرة على الاحتمال؟”.
بدأت إستر في إرسال لقطات فيديو للفريق الطبي. “أندرو يتناول البيتزا، أندرو يجلس، أندرو يضحك”. يروي لاكايو – طبيب الأورام المتابع للحالة: “وكان لسان حالنا: ماذا؟”.
في أغسطس/آب، حاول الفريق الطبي معرفة ما كان يحدث، وقد خمّن أنه في يوليو/حزيران حين ظن الجميع أن أندرو يحتضر بسبب السرطان، لكنه في الواقع كان يُعاني من التهاب خطير، وقد شُفي منه في النهاية. لكن التشخيص لم يتغيّر، فقد أكد الأطباء أن أندرو قد يستمر في التعافي من الإصابة التي لحقت به مع تعافي جهازه المناعي، إلا أن الخلايا السرطانية قد تنمو مجدداً، وتُطيح بالصبي في النهاية.
بعد أن أظهر فحص الدم انخفاض عدد الصفائح الدموية، شجعهم د. كوهين على القبول بعملية زرع نخاع لزيادة الصفائح الدموية لدى أندرو. فرغم أنه كان على وشك الموت، إلا أنه لا يجب أن يُترك لينزف حتى الموت. لكن اتضح في المستشفى أن لدى أندرو – بطريقة غامضة – صفائح دموية أكثر من آخر تحليل قام به. ولذلك لم تكن هناك حاجة لعملية الزرع في ذلك اليوم. عندما اقترح دان إعطاءه الفيتامينات قفزت إستير في وجهه. فيبدو أنه اعتقد أن اختبار الدم الغريب هذا يعني أن أندرو يتحسّن. وقال: “لم يكن لديّ أي أمل، وكنت في حاجة لأن يكون لديّ أي أمل”، بعد ذلك اعتذر كل منهما للآخر.
في سبتمبر/أيلول، بدأ أندرو المشي من جديد، وتحسنت شهيته، واستعاد طاقته، ونما شعره الداكن المُجعد. بعدها قرر دان العودة للعمل. بلغ أندرو الثانية من عمره، وهو عيد الميلاد الذي ظن أبواه أنه لن يبلغه أبداً وإن بلغه فسيكون الأخير. تتذكر إستر كيف كان الأصدقاء يحثونهم على الاستمتاع بكل لحظة، وكيف كانت تقول لهم: “لا، هذا الأمر كالجحيم. في كل الأحيان سيموت، لذا لا يوجد أي مبرر للفرح بهذا الوقت”.
قالت إستر لإحدى الممرضات حين تم تشخيص مرض أندرو أول مرة إنها لا تُريد سوى عودة ابنها دائم السعادة ولو لساعة واحدة. لم تكن تفهم حينها أن أي تأجيل يعني أنهم سيخسرونه مجدداً. كما كتبت في بوست: “أي عودة للمرض ستكون أقسى من سابقتها، حيث سيكون أندرو قد كبر وتعلقنا ببعض أكثر”.
بحلول شهر أكتوبر/تشرين الأول، كان أندرو أكثر صحة مما كان عليه خلال عام كامل، وكان يجري ويلعب بالكرة مع أقربائه. لم يكن أي من الأطباء قد شاهد هذا النوع من التعافي من قبل. لذا قرروا إعادته الى المستشفى لإجراء اختبار النخاع العظمي.
لم يُفاجأ مايكل لوكن – الطبيب الذي قام بتحليل وظائف الدم لأندرو – بعودة السرطان لأندرو مرة أخرى. كان يعمل في ذلك الوقت على ورقة بحثية حول R.A.M وهو الخلل الجيني الذي أصاب أندرو. كان قد قام بمتابعة 19 طفلاً يعانون من هذا المرض، بعد 3 أعوام لم يبق منهم أحياء يتمتعون بصحتهم سوى اثنين فقط. عندما فحص نخاع العظمي لأندرو هذه المرة – وذلك باستخدام عينة من 200 ألف خلية – اقشعر جسده. كرر الاختبار مرة أخرى ولكن على 500 ألف خلية. هنا قام بإخبار لاكايو بما وجده، لقد اختفى السرطان.
كيف يمكن أن يختفي السرطان من تلقاء نفسه؟ رددت د. ويلارت ما شعر به الآخرون: “يبدو الأمر كالمعجزة بعض الشيء”. يقول لوكن، مشيراً إلى استحضار مفاهيم ما وراء العلم، “يتحدى الأمر توقعاتنا بالتأكيد، ولا توجد أي قواعد لحدوثه. أعتقد أن هذا قد يكون التعريف المناسب للمعجزة”.
yy
سعى الفريق الطبي للحصول على تفسير علمي. ولأن أندرو لم يتلق أي علاج خلال فصل الصيف، كان الجواب يكمن في عملية زرع النخاع العظمي من خلايا ويلز التي خضع لها. وكانت النظرية الرئيسية أن الالتهاب الذي كاد يقتل أندرو، أدى إلى زيادة كبيرة في خلايا الدم البيضاء الجديدة، كما أن الاستجابة المناعية المتزايدة لم تُهاجم العدوى فقط، ولكنها هاجمت الخلايا السرطانية أيضاً.
اقتنع الأطباء بأن ما حدث يرجع جزئياً للتوقيت، فقد تزامنت عودة السرطان مع نمو نظام المناعة لدى أندرو وقوته بما فيه الكفاية لتدمير الخلايا السرطانية. أحد الأجزاء الحاسمة في نجاح عملية الزرع هو أن بعض الخلايا البيضاء، وخلايا T، التي نمت من النجاع العظمي المزروع ستُهاجم أي خلايا سرطانية باقية، وهو التأثير الذي يُعرف باسم التطعيم ضد اللوكيميا. نادراً ما يقتل العلاج الكيميائي كل الخلايا السرطانية الباقية، لذلك يُعتقد بأنه دون التطعيم ضد اللوكيميا فسيعود السرطان مرة أُخرى في النهاية. غالباً ما يُطلق على هذا الإجراء اسم نموذج العلاج المناعي – حيث يتم تحفيز الجهاز المناعي للمريض لمهاجمة الخلايا السرطانية – التي تُعتبر إحدى أكثر الطرق الواعدة لعلاج السرطان.
اتخذت ويلارت قراراً بالخروج عن بروتوكول ستانفورد العلاجي لتزيد من فرص أندرو في جعل الخلايا الجديدة تهاجم الخلايا السرطانية بقوة. عادة ما يتلقى المريض باللوكيميا أدوية مثبطة للمناعة لمدة 100 يوم على الأقل (وغالبًا ما تزيد المدة على ذلك بكثير) لتفادي أي أثر جانبي خطير، حيث تقوم خلايا T الجديدة بمهاجمة الخلايا السرطانية، بالإضافة إلى جلد المريض والكبد والجهاز الهضمي. وتعتمد المهارة في زراعة الأعضاء على زيادة قوة الخلايا الجديدة أمام سرطان الدم وإضعاف الخلايا الجديدة أمام خلايا الجسم الأصلية.
بدأت ويلارت التي تعمل الآن في مستشفى بينيوف للأطفال بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو في إيقاف جرعة الأدوية المثبطة للمناعة التي تعطيها لأندرو تدريجيًا في اليوم الـ60 كما هو مُتَّبع في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو. وقالت ويلارت: “لقد أصررت على ذلك لأنني أدركت فائدة التخلص من مثبطات المناعة والسماح للخلايا بالقيام بعملها. هذه هي النقطة الأهم في زراعة الأعضاء”.
كان القرار الحاسم الأخير الذي اتخذه إستر ودان ضد المشورة الطبية، حيث قررا وقف العلاج وترك أندرو ليموت، فلو كانا سمحا له بالمزيد من العلاج الكيميائي، لقتل العلاج الخلايا المزروعة التي كانت سبباً في بقاء أندرو على قيد الحياة في النهاية.
“عندما يكون لديك طفل مُصاب بمرض يهدد حياته، فإن حياتك تتغير تماماً”، هكذا أخبرت باربرا سوركيس الأبوين. وجدت إستر صعوبة في التوفيق بين مشاعرها المختلطة بين الألم والأسى لمرض أندرو وسعادتها لبقائه على قيد الحياة طوال هذه الفترة. تقول إستر: “نحن الأفضل والأسوأ حظاً في العالم. حقًا أعتقد ذلك”. ترى إستر القصة كلغز لا يمكن حلّه، وتتذكر كم كانت غاضبة عندما نصحها الآخرون بالتشبث بالأمل. هل الدرس المستفاد أن تلك النصيحة كانت على حق، وأنه دائمًا هناك أمل؟ بالرغم من ذلك، كان السبب في بقاء أندرو على قيد الحياة هو التخلي عن الأمل وتقبّل وفاته.
لم تعد إستر لعملها مجدداً، حيث تقول: “وظيفتي الدائمة هي أن أساعد أطفالي بأن يشعروا بالأمان مجدداً”، لكن من الصعب عليها هي أن تشعر بالأمان. تُعدّ فترة عامين بعد زراعة أحد الأعضاء هي الفترة الأخطر لحدوث انتكاسة، وبعد هذين العامين، يقل احتمال انتكاس المريض بنسبة كبيرة، وبعد 5 سنوات يعتبر المريض قد شُفي تماماً. أمام أندرو 9 أشهر متبقية ليتخطى فترة العامين.
يقول كوهين: “هناك احتمالان فقط لمن يتم تشخيصه بمثل هذا التشخيص، وهما المرض وعدم اليقين. إما يموت مبكراً وهذا أمر يقيني، أو أنه سيبقى على قيد الحياة وتعيش أنت مع خليط متوازن بين الأمل والخوف، لكن هذا التوازن سيختل بمرور الوقت”.
تقول إستر إنها بدأت تشعر بالاطمئنان فقط في الأسابيع القليلة الماضية، وإنها عندما ترى أندرو باتت تشعر بالسعادة بدلاً من القلق على مستقبله. وأضافت: “يوماً بعد يوم نسمح لأنفسنا بالاحتفال بعودة أندرو”.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي
اضف تعليق