وسيم ابراهيم –
نجح رعب «داعش» في إيصاله إلى كلّ مكان. صارت كوابيس جرائمه، ظلال إرهابه، بطاقة هوية لموَاطَنة أوروبية مقيمة أيضاً. من عاصمة أوروبا لا يبدو بحدود دولة بلغت عامها الأول، بل أشبه بإمبراطورية نفسيَّة عظمى، يمتدُّ ظلامها إلى كل مكان يمكن التغذّي على مظالمه وفشله.
تقول الوجوه، مثل الحسابات الوهمية في وسائل التواصل الاجتماعي، أشياء كثيرة لا يفصح عنها اللسان. لكنه تحاملَ على وجوده في بيئة العمل، ليقول بعد نقاش منفعل «تحس ذلك حتى هنا، إنهم يتجنَّبون الحديث إليك». أخبار اعتداء ليون كانت لا تزال طازجة. كان أمامه عشرات الصحافيين الزملاء، من كل أنحاء أوروبا والعالم، في صالة المجلس الأوروبي الهائلة التي تشهد القمة الأوروبية.
هل هي هواجس أصيبت بالتهاب اللحظة، أم انطباعات لها أساسها؟ أياً كانت الإجابة، فلم يعد محصّناً من تبعات الوصمة حتى صحافي مثقّف، جال في أوروبا طوال عقدين، ويتحدث لغاتها الرئيسية. يرى أنه الآن، بالنسبة إلى زملائه، هو فقط ذلك الرجل الذي يحمل لغة وسحنة العربي. إنه من هناك، من حيث يتواصل كل ذلك الظلام الفاحش. إذا كان ذلك حاله، فما البال بالآلاف من «العامة»، ممَّن تلاحقهم تبعات الوصم وليس لديهم ما له من خط دفاعي؟
الوجوه تقول الكثير. داخل عربات الترام والميترو، على موقف وسائل النقل العامة، في الشوارع، كانت نظرات الريبة تطفو بوضوح. العشرات ممَّن لا دخل لهم بشيء كانوا يمشون كمتَّهمين. كثير ممَّن جعلهم منظرهم في نطاق تأثير الوصمة، كان القلق ينعكس في عيونهم تحسُّباً لأيّ عيون تلتقطهم.
حينما كان النقاش دائراً حول إمبراطورية صيت «داعش»، داخل صالة الصحافة، كانت لا تزال الأنباء الأولى من ليون تغزو كل مكان. إنه هجوم إرهابي، بقصد تفجير مصنع غاز، وهناك رأس مقطوع على سياجه. ورود الأخبار عن وجود رايات «إسلامية» ليس بجديد، لكن حول الرأس المقطوع: «كتابات بالعربية». التعبير الأخير كفيل بتوسيع نطاق المشتبهين، إلى أقصى الحدود. صار النطاق يتضمَّن مسبقاً كل مسلم يمكن تمييزه، ويتعداه إلى كل من جعلته جيناته يحمل سحنة جغرافيا أجداده.
الفاعل هو رجل كان يبدو «عادياً»، كلّ ما رصد عنه صلته بالتشدّد الديني. لكنه كان لمحيطه شخصاً ليس فيه ما يُنذر، ولا يمكن بأيّ حال أن يتخيلوه قاطع رؤوس. له عائلة لم تصدق ما حصل، وعنده أصدقاء وزملاء عمل.
مطلوب للعدالة:
ذئب متنكر بثوب خروف
الإرهابي إذاً «عادي» من نوعه، فكيف يمكن رصد المشتبه بإمكانية تنفيذ اعتداء؟ ما هي الصفات المميزة للمطلوب، لصلته المحتملة بإرهاب «داعش» وأخواته، بما يمكن وضعها في ملصق يوزع في الشوارع، أو في خيال الأوروبيين. هناك ما يساعد طبعاً. هؤلاء قرأوا شهادات بعض زملاء ياسين صالحي، منفذ هجوم ليون. أحدهم قال عنه: «كان ذئباً متنكراً كخروف»، مستخلصاً زبدة ما يدلّ على مؤشرات الجريمة، قال زميل «الإرهابي»، إنه كان «غامضاً مع هدوء تام».
وفقاً لذلك، وللصفات التي قدمتها الأخبار اللاحقة، يمكن التخيّل أنَّ المشتبه فيه، المطلوب، هو شخص «يتنكر بثوب خروف، غامض وهادئ تماماً، ويمكن أن يقطِّع رأس رب العمل بعد شجارات بينهما».
هكذا صارت أوروبا تلاحق الأشباح، والشبهة معمَّمة على جمهور واسع. حالما انتشرت أخبار اعتداء ليون، لم يستطع راصدو وسائل التواصل الاجتماعي منع أنفسهم من نقل «الحقيقة». بعضهم خرج على شاشات التلفزيون ليقول إنَّه يرى، مجدداً، ارتفاع موجة «معاداة الإسلام».
مع ترسّخ بيئة نفسية كهذه، يكون مفعول دعاية «داعش» في أحسن أحواله، وفق ما يشرح ميكائيل بريفو، مدير الشبكة الأوروبية لمكافحة العنصرية. يقول، خلال حديث مع «السفير»، إنَّ «كل ما يحصل يغذِّي دعاية وسردية وجاذبية داعش أكثر وأكثر»، قبل أن يضيف «التمييز ضدّ المسلمين يزداد، وهناك دراسات حديثة تؤكد ذلك، فإذا كنت ربّ عمل ستفكّر مرتين قبل أن توظف مسلماً».
الحصيلة المؤسفة التي تنقلها شبكة مكافحة التطرف هي أن الكابوس «باقٍ ويتمدَّد»، على غرار الشعار الذي رفعته دولة «الخلافة» عن نفسها. بوصلتها هي أنَّ «داعش» لطالما خاطب مسلمي أوروبا بالمختصر المفيد: أهلاً بكم، مكانكم ليس هناك، بل داخل «الدولة الإسلامية» أو في خدمة إرهابها.
عمل بريفو، خلال الأشهر الماضية، مع ورشات عمل لمكافحة التطرف، وكذلك «رهاب الإسلام». اشتغلوا حول مواجهة ظاهرة «الجهاديين» الغربيين. كانوا يدركون أنَّ الاعتداءات ستتكرَّر. قابلوا السلطات، لكن مطالباتهم بـ «العمل بجهد لإدماج المجتمع المسلم» في أوروبا لم تجد الاهتمام الكافي.
النهج المهيمن هو التركيز على التشدُّد الأمني في كل اتجاه، لذلك يخلص بريفو إلى القول إنَّ السياسات المتبعة ستضاعف المخاطر: التشديد على مراقبة ممارسة العبادة سيتوسع، والاشتباه بالناس سيزيد، وهذا «سيزيد التأثير السلبي على المجتمع المسلم الهشّ في الأساس».
كوماندوس لدخول «العقول والقلوب»
الهجمات الإرهابية على الأبرياء تكرَّرت، في بروكسل وباريس وكوبنهاغن. القضية لم تعد تدور حول تهديد «الجهاديين» الأوروبيين، لدى «داعش» وأخواته، بعدما وصل عددهم إلى نحو ستة آلاف. هؤلاء يمكن على الأقل معرفة شيء عنهم. المعضلة الحقيقية باتت أشباح «المتعاطفين». من لديهم صلات بالتطرف، أو من هم «ذئاب منفردة»، مسرح جريمتها المخفي هو عقلها، حيث تتطرَّف وتخطِّط.
كل هذا يجعل التحدي الأمني أكبر من إمكانية تطويقه، بعدما صار شبح «العدو بيننا» يلاحق أوروبا. إجراءات الاحتياط والردع وصلت حداً غير مسبوق. درجة التهديد الأمني رُفعت مراراً، لتستقر في دول أوروبية عديدة على مستوى «هجوم إرهابي محتمل».
مرّت أشهر والجنود، بعتادهم العسكري الكامل، يتجولون في الشوارع العامة لعواصم أوروبية. ينتشرون في بروكسل وغيرها لحماية «المواقع الحساسة». التنسيق الأوروبي لمكافحة الإرهاب يبلغ أقصى حدوده. تم إنشاء هيئات وآليات جديدة، فيما الأجهزة الأمنية تعيش حالة استنفار متواصلة.
لكن كل ذلك لا يبدِّد شبح القلق المقيم. خلاصة يدركها تماماً المسؤولون الأوروبيون. بعد اعتداء ليون، سألت «السفير» رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، عن هواجسه الآن، فقال إنَّ «الحادث يظهر بوضوح أنه لا يجب فقط أن نقاتل هؤلاء الذين يهاجموننا من الخارج، بل ضد هؤلاء الذين يهاجموننا من الداخل».
مردداً السؤال الذي بات يتردد على كل لسان، وأحياناً يستخدم لتعميم الشبهة، تساءل يونكر: «لماذا من الممكن لأناس كبروا في بلادنا، في كنائسنا ومدارسنا ومجتمعاتنا، أن يفعلوا ما يفعلونه». سؤال كبير، لا يملك رئيس المفوضية إَّلا التشديد على أهمية الجواب عليه، خصوصاً وهم يعدون إستراتيجية أمنية جديدة، إذ يقول: «لا أعرف، إنها ظاهرة لا نفهمها وعلينا الردّ عليها، فالأمر متعلق بنا لنحصل على فهم أكبر حول ما يدور في عقول وقلوب هؤلاء الناس».
كان يونكر يستمع، مع القادة الأوروبيين، إلى التحديات الأمنية في العالم اليوم. حدثتهم عن ذلك وزيرة خارجية الاتحاد فيدريكا موغيريني، وكذلك أمين عام الحلف الأطلسي يانس شتولتنبرغ. الأخير كان قبل يوم يتملَّص من مسؤوليتهم تجاه تلك التحديات.
الحلف قضى أكثر من عقد يحارب «الإرهاب» في أفغانستان، لكنه غادرها وتنظيمات «الإرهاب» باقية. حينما سُئل عن انتشار «داعش» هناك، مع مجموعات عديدة تعلن ولاءها للتنظيم، تهرّب بالقول إنهم ليسوا «داعش أصيلين». كأنه يرى تنظيم الارهاب الدولي بلورة صافية. قال شتولتنبرغ إنَّ تلك المجموعات تعلن ولاءها من قبيل «ري براندينغ» (إعادة خلق علامة تجارية)، للحصول على مصداقية وزخم.
طبعاً انتشار «داعش» مسألة شديدة الاحراج للحلف، خصوصاً أنَّه يتحدَّث عن «أفغانستان أفضل» بعد حربه. مع ذلك، تعرف دول «الناتو» جيداً أنَّ الـ «ري براندينغ» قامت به أيضاً العديد من الفصائل المسلحة التي دعمتها، حين كانت تصنِّفها في جبهة «المعارضة المعتدلة» سورياً.
جاء الفرج الدموي: «كلنا ضحايا»
بعد انتشار موجة الخارجين عن تعقّلهم، عقب اعتداء ليون، جاءت مساوئ «الصدفة» الأكثر دموية لتعيد بعض العقل. الإرهاب يضرب بعيار أكبر، ويحصد حياة عشرات الأبرياء في تونس والكويت. خرجت موغيريني لتقول، إنَّ ما حدث «يظهر أننا وإخوتنا العرب متحدون في حقيقة أننا جميعناً ضحايا».
كلمات موزونة من سياسية ربطتها مرحلة دراسية بالعالم العربي. لكن ساسة آخرين، نددوا باعتداء ليون، لم تجعلهم مجازر الكويت وتونس، وتلك المتواصلة في سوريا والعراق، يتكرمون بإعلان تلك «الوحدة». هنالك مكاسب مناخ التشنج والقلق الذي يسببه «داعش»، ولا يبدو أنَّ المنتفعين مهتمون بعقلنته.
أحزاب اليمين، واليمين المتطرف، تحصد الأصوات في فرنسا ودول أوروبية عديدة. أحدث الأمثلة في الدنمارك، حيث حقق «حزب الشعب» المعادي للأجانب والمهاجرين فوزاً كبيراً. صار ثاني أكبر حزب في البرلمان، بعدما أعطاه الناخبون الدنماركيون نحو 21 في المئة من أصواتهم.
في كل تلك الدول صارت مشكلة «الجهاديين» نافذة للكسب الانتخابي. يقول الصحافي المغتاظ من الوصمة المعممة، وممَّا يراه «لعبة كبيرة»، بلهجة ساخرة، إنَّ «كثيرين يجنون الأرباح عبر داعش. تبرير إحياء الدولة الأمنية في أوروبا. رفع موازنات الدفاع. ترحيل المهاجرين، وغيرها من الأرباح في المنطقة. من في مصلحته إنهاء هذه المكاسب؟».
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي