«لن نعلن الحرب على تركيا»… و«ليست لدينا أية نية على الإطلاق في التصعيد».
عبارتان، الأولى لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، والثانية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خففتا من الهلع الدولي إزاء التداعيات الصِدامية المحتملة لحادثة إسقاط طائرة «السوخوي» عند الحدود السورية ـ التركية.
ولكن ما قاله لافروف وأردوغان لم يؤشر الى إمكانية احتواء «الطعنة في الظهر» التي وجهها «السلطان» رجب طيب أردوغان لـ«القيصر» فلاديمير بوتين، في ظل الإجراءات العسكرية التي بادرت روسيا الى اتخاذها برّاً وبحراً وجوّاً في سوريا، والحديث عن مروحة واسعة من الخيارات السياسية والاقتصادية التي بإمكان الكرملين اللجوء اليها رداً على الاستفزاز التركي.
وفي اليوم الثاني لإسقاط طائرة «السوخوي»، بدا ان الرد الروسي على الحادثة الجوية قد أخذ في الحسبان ضرورة التركيز، في مرحلة أولى، على إفشال الأهداف التي ابتغتها تركيا من مغامرتها، التي تعد الأكثر تهوّراً منذ بدء الحملة العسكرية الروسية في سوريا، أو حتى منذ أيام الحرب الباردة، خصوصاً ان تلك هي الحادثة الجوية الاولى بين روسيا / الاتحاد السوفياتي، ودولة عضو في حلف شمال الاطلسي، منذ خمسينيات القرن الماضي.
وكان واضحاً، منذ اللحظة الاولى لإسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية، ان تركيا أرادت تحقيق أهداف عدّة بضربة واحدة. ومن أبرز تلك الأهداف توجيه ضربة معنوية كبرى للرئيس بوتين عبر إسقاط طائرة حربية باتت تمثل رمزاً لعاصفته العسكرية المتواصلة في سوريا، واستنزاف الجهود الديبلوماسية والعسكرية الروسية الهادفة الى دحر الإرهاب وتحقيق الحل السياسي للأزمة السورية، وذلك من خلال استدراج موسكو الى مواجهة تتجاوز جبهتها الميدان السوري، والأهم وضع حلف شمال الاطلسي أمام أمر واقع جديد يدفعه الى القبول بخطة رجب طيب أردوغان الهادفة الى إقامة منطقة آمنة/عازلة من جرابلس الى البحر الابيض المتوسط.
ولكن تطورات الرد الروسي قلبت السحر على سحرة السلطان العثماني، فالإجراءات الأولية التي اتخذها الكرملين كانت كافية لإفشال مثلث الأهداف التركية، أو على الأقل احتوائها، فمفاعيل الضربة المعنوية تلاشت أمس، من خلال عملية كوماندوس روسية – سورية مشتركة، أفضت الى إعادة الطيار الروسي الثاني الى قاعدته الجوية سالماً. أما محاولات الاستنزاف فبدا انها اصطدمت برد الفعل المدروس من قبل القيادة الروسية التي أحبطت آمال أنقرة بمنازلة روسية – أطلسية. وأمّا مخطط المنطقة العازلة، فبدا أنه تحقق بالفعل، ولكن هذه المرّة معكوساً، بعد قرار روسيا نشر وتفعيل منظومات «اس 300» و «اس 400» للدفاع الجوي، وتسيير طائرات مقاتلة لمواكبة العمليات الجوية لطائرات القتال الارضي، وهو ما يدفع بالاتراك الى التفكير ألف مرّة قبل ان يتخذوا قراراً بمهاجمة الطائرات الروسية، أو الاقتراب منها، حتى في الأجواء التركية المحاذية للحدود مع سوريا.
وبعد يوم على إسقاط الطائرة الروسية عند الحدود التركية – السورية، سعت أنقرة الى تهدئة التوتر. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «ليس لدينا على الإطلاق أية نية في التسبب بتصعيد بعد هذه القضية».
وأضاف أردوغان، في كلمة أمام منتدى دول إسلامية في اسطنبول، أن «تركيا لم تؤيد أبدا التوتر والأزمات وإنما تؤيد على الدوام السلام والحوار»، لكنه أضاف «نحن نقوم فقط بالدفاع عن أمننا وحق شعبنا… ويجب ألا يتوقع أحد منا أن نلزم الصمت حين ينتهك أمن حدودنا وسيادتنا».
وكرر أردوغان انتقاده للتدخل العسكري الروسي في سوريا، قائلاً «لسنا أغبياء. يؤكد (الروس) أنهم يستهدفون داعش، لكن لا داعش في هذه المنطقة. إنهم يقصفون تركمان بايربوجاك».
بدوره، أكد رئيس الوزراء التركي احمد داود اوغلو، أمام نواب «حزب العدالة والتنمية»، أن بلاده «صديقة وجارة» لروسيا، موضحا «ليست لدينا أي نية في تهديد علاقاتنا مع الاتحاد الروسي»، مشددا على بقاء «قنوات الحوار» مع روسيا مفتوحة.
وفي موسكو، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال مؤتمر صحافي، «لدينا شكوك جدية حول ما إذا كان ما حدث عملاً عفوياً، انه أقرب ما يكون إلى استفزاز متعمد».
وأضاف «لن نعلن الحرب على تركيا، وعلاقاتنا مع الشعب التركي لم تتغير».
وأشار لافروف الى انه أجرى مكالمة هاتفية مع نظيره التركي مولود جاويش اوغلو استمرت قرابة الساعة، موضحاً أن الوزير التركي حاول «تبرير قرارات سلاح الجو التركي» عبر تأكيده أن الطائرة «حلقت لمدة 17 ثانية في المجال الجوي التركي، وأن سلاح الجو التركي لم يعرف لمن تتبع». لكن لافروف أكد أن «هذا الهجوم غير مقبول على الإطلاق»، مشيرا إلى أن موسكو «ستجري إعادة تقييم جدية» للعلاقات الروسية – التركية.
وذكّر لافروف بكلام أردوغان، في معرض تعليقه على حادث إسقاط مقاتلة تركية من قبل سلاح الجو السوري فوق ريف اللاذقية في العام 2012، حين قال إن اختراقاً قصيراً للأجواء لا يجوز أن يعتبر ذريعة لاستخدام القوة.
وأضاف لافروف «ذكّرت نظيري التركي بهذا التصريح، لكنه لم يتمكن من الرد علي، بل أصر على أنهم (الأتراك) لم يعرفوا تبعية هذه الطائرة» الروسية.
وأشار إلى استحداث خط ساخن بين مركز تنسيق العمليات لوزارة الدفاع الروسية ووزارة الدفاع التركية منذ بدء العملية العسكرية الروسية في سوريا، لكنه أكد «أنقرة لم تلجأ إلى استخدام هذا الخط أبدا. إن ذلك يثير تساؤلات كثيرة».
وأشار إلى أن سلاح الجو التركي نفسه يخرق أجواء جيران تركيا باستمرار، لكن ذلك لا يؤدي إلى أي حوادث من هذا القبيل.
وفي سياق محاولات احتواء التوتر، أجرى وزير الخارجية الأميركي جون كيري اتصالاً مع لافروف، وطالبه بالهدوء وبالحوار مع تركيا. وذكرت وزارة الخارجية الأميركية، في بيان، أن «الوزيرين أكدا في اتصال هاتفي حاجة الجانبين لعدم السماح لهذا الحادث بتصعيد التوتر بين بلديهما أو في سوريا»، فيما ذكرت الخارجية الروسية أن لافروف أشار في اتصاله مع كيري إلى أن إسقاط الطائرة «يعتبر انتهاكاً سافراً للمذكرة الروسية – الأميركية المشتركة حول ضمان سلامة طلعات الطائرات العسكرية في سوريا، والتي أخذت الولايات المتحدة فيها على عاتقها المسؤولية عن التزام جميع دول التحالف الدولي الذي ترأسه واشنطن، بالقواعد المنصوص عليها في هذه الوثيقة».
الى ذلك، أعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن الطيار الثاني لمقاتلة الـ «سوخوي-24» تم إنقاذه من خلال عملية خاصة مشتركة بين القوات السورية والروسية.
وقال شويغو «العملية كانت ناجحة. وأعيد الطيار إلى قاعدتنا» في حميميم، شاكراً «كل عناصرنا الذين قاموا بمجازفات كبرى طوال الليل» لإنقاذ الطيار قسطنطين موراختين.
وذكر «المرصد السوري لحقوق الإنسان» ومعارضون أن الطائرات الروسية شنت غارات عنيفة على مواقع المسلحين في ريف اللاذقية قرب موقع إسقاط تركيا للطائرة الروسية. وأوضح «المرصد» أن «12 ضربة جوية على الأقل أصابت ريف اللاذقية الشمالي، فيما اشتبكت قوات سورية مع مقاتلين من جبهة النصرة ومقاتلين تركمان في منطقتي جبل الأكراد وجبل التركمان».
وقال مصدر في الجيش التركي إن القوات التركية المنتشرة على الحدود في حالة تأهب بعد بدء القصف.
وعززت شهادة الطيار الروسي حول الحادث الجوي وجهة النظر القائلة بأن تركيا تعمّدت نصب كمين جوي لـ «السوخوي» الروسية. وخلافاً للرواية التركية، قال قسطنطين موراختين «لم يكن هناك أي تحذير، لا عبر اللاسلكي ولا بصرياً. لم يكن هناك أي اتصال على الإطلاق»، مضيفاً «لو أراد (الجيش التركي) أن يحذرنا، لكان قادرا على إرسال طائرة في محاذاتنا. لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق».
ولعل الرواية التركية بشأن الحادث تتضمن ما يؤكد وجهة النظر الروسية بشأن الحادث، فقد نُشرت يوم امس نسخة من الرسالة التي وجهتها أنقرة الى الامين العام للامم المتحدة بان كي مون حول ملابسات إسقاط «السوخوي»، وقد كان لافتاً فيها التأكيد أن المقاتلة الروسية استهدفت بعد 17 ثانية من اخترقها المجال الجوي التركي، بخلاف ما كانت أنقرة أكدته مرارا امس الاول بأن الانتهاك استمر خمس دقائق.
وفي موازاة عملية إنقاذ الطيار الروسي، اتخذت موسكو إجراءات جديدة، لحماية طائراتها العاملة في سوريا، فبعد قرار هيئة الأركان العامة تأمين مواكبة جوية بطائرات قتالية للعمليات الجوية، وتفعيل منظومة «اس 300» على متن الطراد «موسكفا» قبالة السواحل السورية، تقرر يوم امس نشر منظومة الدفاع الجوي «اس 400» في قاعدة حميميم العسكرية.
وفي هذا الإطار، قال بوتين: «في ما يتعلق بأمن طيراننا خلال عمليتنا الجوية في سوريا، أرى أن الإجراءات التي أعلناها غير كافية، وبحثت الأمر مع القادة المعنيين في وزارة الدفاع. قررنا نصب منظومة اس 300 للدفاع الجوي في قاعدتنا الجوية في سوريا، وآمل ألا تقتصر إجراءاتنا على هذه الخطوة فحسب، بما يخدم ضمان سلامة تحليق طائراتنا». وأضاف «أريد التأكيد في هذه المناسبة أننا سنتعامل بجدية مطلقة مع الحادث، وسنسخّر جميع طاقاتنا لضمان أمننا».
وفي البداية حدث لبس في نوع النظام الذي يشير إليه بوتين، فقد تحدث عن نظام «إس 300»، لكنّ وزير الدفاع سيرغي شويغو ومتحدثاً باسم الكرملين أكدا إرسال نظام «إس 400» المتقدم للدفاع الجوي إلى قاعدة حميميم.
وفي إطار الرد الروسي على حادثة «السوخوي»، صعّد بوتين، يوم امس، من انتقاده للقيادة التركية، محذراً من أن قادة تركيا يشجعون على أسلمة المجتمع التركي، وهو أمر يمثل مشكلة.
وقال بوتين ان «المشكلة ليست المأساة التي شهدناها أمس (الاول). المشكلة أعمق بكثير. نحن نلاحظ أن القيادة التركية الحالية على مدار عدد كبير من السنوات تتبع سياسة متعمدة لدعم أسلمة بلادها، ودعم التيار الإسلامي» المتطرف.
وحذر بوتين السياح الروس الموجودين في تركيا من خطر جسيم قد يتهددهم على خلفية التطورات الأخيرة. وقال «بعد الحادث الذي وقع أمس (الأول)، لم يعد بوسعنا استثناء تكرار أي حادث آخر، إلا أننا لن نتوانى عن الرد في مثل هذه الحالة. مواطنونا الموجودون في تركيا قد يتعرضون لخطر كبير، ووزارة خارجيتنا ملزمة بالتنبيه إلى ذلك».
بدوره، قال رئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف إنّ المشاريع المشتركة المهمة بين روسيا وتركيا قد تُلغى، وإن الشركات التركية يمكن أن تخسر نصيبها في السوق الروسية.
وأكد ميدفيديف أنه نتيجة للسياسات التركية فإنّ «علاقات الجوار الطويلة بين روسيا وتركيا تصدعت».
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي