ما لم يقال عن الإنقلاب.. في روسيا!

هل كان انقلابا من إخراجه، أم أنه كان ضحية مؤامرة الصقور في الحزب الشيوعي؟

هذا السؤال يدور كالأسطوانة، حتى بعد مرور ربع قرن على ما بات يعرف في الأدبيات السياسية والتاريخية الروسية “انقلاب لجنة الطواريء”على ميخائيل غورباتشوف أول وآخر رئيس سوفيتي.

أحداث الأيام الثلاثة “19 -21 آب /أغسطس من العام 1991” تثير علامات استفهام ؛ يبدو أن الكتاب والباحثين والمؤرخين يختلفون حولها حتى بعد انقضاء ربع قرن لم يعد من الاتحاد السوفيتي الذي انهار بفعلها غير الذكريات والحنين.

فإلى الآن من غير المعروف ما إذا كان غورباتشوف بالفعل تعرض للحجز في منتجعه على البحر الأسود لأنه رفض التوقيع على مرسوم إعلان الطواريء .

السياسي العجوز الذي لم يتردد عن الظهور في دعاية تروج “للبتزاهات” الإيطالية مقابل مئة ألف دولار أو هكذا قيل؛ أعلن بعد عودته “منتصرا”من منتجع”فاروس” على البحر الأسود أن المتآمرين قطعوا عنه الاتصالات وأن حراسه تمكنوا من “تدبير” هوائي قديم مكنه من متابعة الأخبار في معتقله الإجباري!

حينها لم تكن الهواتف المحمولة دخلت روسيا السوفيتية. وبعد بضعة شهور من فشل” الانقلاب” قدمت شركة نوكيا الفنلندية عرضها الأول في سانت بطرسبىرغ لمنتجاتها. وألقى محافظ المدينة حينها أناتولي سوبتشاك كلمة قال فيها “لو كان لدى ميخائيل غورباتشوف هاتف نوكيا المحمول لما تمكن المتآمرون من فعلتهم”!

لم يلتفت الحاضرون كثيرا الى الابتسامة التي علقت بوجه الرئيس غورباتشوف؛ وكان على وشك مغادرة الكرملين مسلما زمام الأمور لبوريس يلتسين خريف نفس العام، الذي تنازل بدوره عن السلطة لتلميذ الدكتور سوبتشاك في كلية الحقوق، فلاديمير بوتين وقبل بضع ساعات مِن دخول العالم الألفية الثالثة. وتحديدا يوم 31 كانون أول/ديسمبر 1999.

ابتسامة غورباتشوف حينها تشي بأن الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي المتهالك؛ متأكد من أن سوبتشاك وفريق الليبراليين ممن تسلموا التركة السوفيتية بالجملة وباعوها بالمفرق، يعلمون بأن قصة قطع الاتصالات كانت غير حقيقية، وأن منتجعا مثل”فاروس” في شبه جزيرة القرم المخصص للقيادة السّوفياتية؛ محاط بطبقات من الحماية البشرية، والإلكترونية، والفضائية، جوا وبحرا. ولا يمكن لأربعة من قيادات الدولة، اثنان منهما بلغا من العمر عتيا أن يعزلوا هكذا ببساطة الأمين العام لحزب كان يحكم سدس اليابسة!

لقد اتيحت لكاتب هذه السطور فرصة اللقاء بعدد من القادة المتورطين في محاولة “الانقلاب” بعد إطلاق سراحهم؛؛

غينادي ينايف، نائب الرئيس السوفيتي، وفلاديمير كروتشكوف رئيس جهاز أمن الدولة(كي.جي.بي) وأوليغ شينين سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وغيرهم. وسجلنا معهم أحاديث عرضنا مقتطفات منها في صحف ومجلات عربية آنذاك، من بينها مذكرات مسجلة خصيصا ونشرت على حلقات في صحيفة ( الرأي) الأردنية مع غينادي ينايف نائب الرئيس ميخائيل غورباتشوف .

حينها وأنا استمع إلى شهادته عن تلك الأيام التي أزالت من الخارطة؛ القطب السوفيتي بلمح البصر، أدركت أن المستوى الفكري للمرحوم ينايف لم يخرج عن إطار المسؤول في منظمة الشبيبية الشيوعية التي ظل ينايف على رأسها أكثر من عقدين؛ قبل أن يختاره غورباتشوف نائبا له، وكأنه كان يريد له أن يلعب يوما ما دور ” المغفل” في ” انقلاب “!

غينادي ينايف الذي توفي فقيرا معدما وحيدا في شقة متواضعة بأحد أحياء موسكو عن 73 عاما كان في تلك الأيام مسيرا وليس مخيرا، كما أكد لنا.

فقد خرج من مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي ظهيرة يوم 18 آب/أغسطس 1991 متوجها إلى البيوت الريفية لقادة الحزب الكبار بضواحي موسكو. وفي الطريق طلب منه رئيس(كي جي بي) فلاديمير كروتشكوف العودة فورا إلى موسكو ليترأس لجنة الطوارئ.

ويتضح من الشهادة التي من المؤكد أنها كانت سببا رئيسا في تبرئته من تهمة التامر وصدور العفو عنه وعن شركاء ” المؤامرة” الآخرين. أن السيد ينايف (مواليد 1937) ينطبق عليه المثل الشعبي” نايم ورجله بالشمس”!

فالرجل كان مولعا بجلسات الشرب، وأجواء الشباب رغم أنه تجاوز في حينها العقد الخامس من العمر. ينفذ أوامر الكبار كما لو كان جنديا أول، مع أن منصب نائب الرئيس يضعه في مصاف القادة.

ينايف لم يناقش رئيس جهاز أمن الدولة، فلاديمير كروتشكوف في قرار الحزب تنحية غورباتشوف مؤقتا بسبب حالته الصحية؛ كما ورد في البيان الأول والأخير لانقلاب آب.

بل إن نائب الرئيس كما أبلغنا كان على ثقة تامة بأن غورباتشوف وراء قرار التنحي المؤقت ” لغاية في نفسه” وأن الأمور ستعود إلى مجاريها بعد أن يتخلص ميخائيل غورباتشوف من الليبراليين في صفوف الحزب ويعزز هيمنة المركز على الجمهوريات.

وواقع الحال فإن جميع المشاركين في “انقلاب آب” بلعوا طعم الرفيق غورباشوف وليس ينايف وحده الذي حين قلت له إننا نحن الصحفيين العرب في موسكو ننعته بـ” يا نايم” كاد يغشى عليه من الضحك، وهو ينفث السيجارة تلو الأخرى ويكرع الفودكا بشهية عجيبة.

ولم يتنبه لاعبو دور الانقلابيين إلى خطة غورباتشوف إلا بعد أن اقتيدوا ليلة الثالث والعشرين من آب /أغسطس إلى معتقل ليفورتوف وتعرضوا إلى إهانات من مثل مواجهتهم بكلاب مقيدة كانت تنبح بوجوههم وسط أضواء تعمي الأبصار.

عندها، كما قال ينايف، أدركت أنني “ضحية قلب طيب وثقة عمياء بالأمين العام للحزب والرفاق في القيادة”!

تتفق شهادات معظم المشاركين في “انقلاب آب” ممن التقيناهم على أن اللاعب غورباتشوف أراد التخلص من المتشددين في قيادة الحزب والدولة، وانه أوحى لهم بفكرة التنحي المؤقت وتوريطهم بعد ذلك في انقلاب مزعوم.

وأكد لنا ينايف؛، أن الرئيس غورباتشوف قال لأعضاء المكتب السياسي الذين ذهبوا لزيارته في منتجع” فاروس” افعلوا ما ترونه مناسبا لوقف تفكك الاتحاد السوفيتي وأنا قاعد هنا في انتظار ما ستؤول إليه الأمور. عبارة حمالة أوجه يفهمها كل على هواه.

الصقور فهموها على أنها قبول بالتنحي المؤقت، وأن الرفيق الأمين العام متفق مع مخاوفهم بشأن تردي الأوضاع في الدولة السوفيتية البائدة، وأن لحظة الحقيقة قد أزفت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

أما غورباتشوف فقد أبلغ الليبراليين بعد العودة منتصرا على ” الانقلاب” من المنتجع بأنه قال للمتآمرين ” اذهبوا وسترون ما ستؤول إليه الأمور” مع شريط من الشتائم التي اعتاد الرفاق سماعها من الأمين العام .

ينايف أكد لنا أن الرفيق الأمين العام كان لا يتورع عن الألفاظ النابية كلما عن له ذلك في اجتماعات المكتب السياسي الأمر الذي يفسر لماذا يخلو المكتب من النساء !

وليس غورباتشوف استثناء. فلم يحدث أن وصلت امرأة واحدة إلى عضوية المكتب السياسي منذ حقبة ستالين الحديدي وإلى أن أجهز غورباتشوف على الحزب والدولة السوفيتية بالضربة القاضية في التاسع عشر من آب/أغسطس 1991. يوم انهار الاتحاد السوفيتي مثل كوخ من قصب البردي حتى بدون زوبعة. ولم يكن الأمر يحتاج لأكثر من بضع عبارات فهمها متشددون على أنها ضوء أخضر لعملية كان مخرجها يحسب أنها ستحافظ على عرشه حتى لو انهارت الدولة العظمى.

وحصل أن غورباشوف فقد الكرسي، وتحول في لحظة تاريخية فارقة إلى “ممثل إعلانات أطعمة” ؛ وغاب عن الخارطة الجيوسياسية العالمية القطب السوفيتي مثل سحابة في آب!!

سلام مسافر

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة