جولة في سجون "أمة استثنائية"

فيما يتعهد أوباما بإعتاق الرقاب وإغلاق غوانتانامو في مكرمة غير مسبوقة، يتجرع المحكومون في سجون الولايات المتحدة مرارة التعذيب ويتهافت المستثمرون على التوظيف في محنتهم.
 
ففي الوقت الذي تدأب فيه واشنطن على تعليم الديمقراطية وتلقين الدروس في حقوق الانسان لجميع الدول بقوة السلاح، وتكيل الاتهامات إلى هذا البلد أو ذاك بانتهاك الحقوق الإنسانية، تتستر على ما يجري وراء جدران “مؤسساتها الإصلاحية” التي من يدخلها “مفقود، ومن يغادرها مولود”.
 
وفيما تنادي واشنطن بالحريات وتدافع من أعلى المنابر عن حقوق الإنسان، تشير إحصاءاتها إلى زيادة مضطردة في تشييد السجون الجديدة ودور الإصلاح، حيث بلغ عدد السجناء في الولايات المتحدة وحسب آخر البيانات الرسمية 2,5 مليون، أي ما يعادل 25 في المئة من إجمالي عدد السجناء في العالم.
 
تشييد السجون خلق “قطاعا” اقتصاديا جديدا في الولايات المتحدة، تنشط فيه شركات البناء والخدمات، بل صارت أسهم الشركات العاملة في هذا الحقل تسجل أرقاما قياسية في ارتفاع قيمتها ورواجها بين المستثمرين.
 
“تجارة السجون” هذه، ازدهرت في الولايات المتحدة وأفرزت “منظومة” كاملة تعتاش على بؤس المحبوسين وعائلاتهم وصارت “تحكي بالمليارات”، حتى أن وصل الأمر بالتهافت على “إيرادات” السجون إلى انخراط قضاة ومحامين في إطالة أمد الأحكام بحيث يقضي السجين أطول مدة ممكنة بما يخدم الاسترزاق من ورائه لأطول أمد ممكن.
 
ففي سنة 2011 أدين قاضيان أمريكيان بالتواطؤ مع إدارة واحد من سجون الأحداث وتلقيهما منها زهاء مليوني دولار لقاء أحكام مطولة بالسجن أصدراها بحق قاصرين خدمة لاستيعاب السجن المذكور أكبر عدد ممكن منهم، واستجرار أموال دافعي الضرائب الأمريكيين لتغطية نفقات حبسهم والتربح على أطلال مستقبلهم.
 
وبين ضحايا ظروف السجون الأمريكية وانتهاك أبسط حقوق الانسان فيها، الطيار المدني الروسي قسطنطين ياروشينكو، الذي كان قدره القبوع في واحد منها، و”نيل” قسط كبير من مرارة الحبس وراء جدرانها.
 
ففي سابقة هي الأولى من نوعها، اعتقله عناصر المخابرات الأمريكية في ليبيريا ونقل إلى الولايات المتحدة التي أدانته محاكمها في سبتمبر/أيلول 2011 بتهمة “الشروع في تهريب شحنة كبيرة من الكوكايين” وحكمت عليه بالسجن لـ20 عاما.
 
وخلال حبسه، تفاقمت لدى ياروشينكو أمراض مزمنة كان يعانيها سابقا، وأصيب بمضاعفات أخرى، نظرا لظروف السجن السيئة دون أن يتلقى المستوى المطلوب من العلاج.
 
وزارة الخارجية الروسية، تابعت عن كثب مصير ياروشينكو، وتمكنت من تنظيم زيارة وفد من الدبلوماسيين والأطباء الروس إلى سجنه، اطلع على حالته الصحية والظروف التي يقبع فيها، وأعرب عن تذمره وقلقه حيال ما شاهد وسمع.
 
فقبل بضعة أيام، بعد معاناة من مرض في الأمعاء، قررت عيادة السجن إخضاعه لعمل جراحي “حفاظا على حياته”. ففي الليل، وبلا أي إنذار مسبق أو تحضير للعملية، اقتيد ياروشينكو إلى غرفة العمليات وأخضع لعمل جراحي. وبعد أن استفاق من التخدير، منحه “الأطباء” عشرين دقيقة للراحة، ليعيده السجانون إلى حبسه، في وقت كان ينبغي فيه في مثل هذه الحالة إبقاؤه في المستشفى وتحت رعاية الأطباء لأيام.
 
وبعد وقت، صار ياروشينكو يئن ويصرخ من ألم أخذ يشتد عليه مع زوال أثر التخدير، ما اضطر زملاءه في السجن إلى استدعاء الحراس ومطالبتهم بإعطائه دواء أو مخدر يخفف من معاناته. النتيجة كانت، أن العاملين في المستوصف أعطوه مسكنا لا يسمن ولا يغني من جوع في مثل حالته، وقالوا إنه لا يوجد لديهم مسكنات ناجعة وأنهم بانتظار توريدها لهم في القريب.
 
ياروشينكو استمر في معاناته ثلاثة أيام دون جدوى، وضاق الأمر برفاقه في الحبس حتى أن حملوه إلى قرب الهاتف ليتصل بالسفارة الروسية ومحاميه ويبلغ الجميع بألمه وما يتعرض له من إهمال.
 
والسؤال: إذا كان ياروشينكو قد حباه الله “ظهرا” يسنده ممثلا بالدبلوماسيين الروس والرأي العام، ويتعرض رغم ذلك لهذا القدر من الإهمال والإهانات، فما هو إذا حال الأمريكيين في حبسهم، وما هو حال من يشتبه بهم رجال المخابرات الأمريكيون بالتورط بالإرهاب أو التطرف، خاصة وأن “العدالة” الأمريكية تعاقب على “النية” في ارتكاب الجريمة؟
 
وكيف لـ”أمة استثنائية” كما وصفها باراك أوباما غير مرة، أن تعامل الإنسان بهذه القسوة في القرن الحادي والعشرين، وألا تعطيه مسكنا يزيل آلامه بعد عمل جراحي أخضع له كأرانب المختبرات، أم أن الاستثنائية تكمن في ذلك؟
 
وعليه، فإن سجن أبو غريب، ومعتقل غوانتانامو، إنما هما، واستنادا إلى ما كشفته قضية ياروشينكو ليسا إلا “مؤسستين إصلاحيتين” يعكف فيهما حراس “أمة استثنائية” على “إصلاح” الإنسان وإنزال أشد العقوبات به، حتى ولو كان مشبوها، أو فكر باحتمال اقترافه الجريمة.
 
الجانب الروسي، يشكك عموما بصحة الأدلة التي أدين بموجبها ياروشينكو، فيما يعول الرأي العام الروسي على إعادته إلى البلاد، وقضاء مدة حبسه على أراضيها إذا ما ثبت جرمه فعلا.
 
كما يأمل الرأي العام، والمنظمات الحقوقية بما فيها “هيومان رايتس ووتش” التي كثيرا ما تسلط الضوء في تقاريرها على السجون الأمريكية، في أن تمثل قضية ياروشينكو ومعاناته حافزا يحمل السلطات الأمريكية على إصلاح “إصلاحياتها”، في وقت يرى فيه مراقبون أن الولايات المتحدة التي أمعنت في تصدير الثورات الملونة، إنما هي عرضة في عقر دارها لثورة قاتمة، يكون ثوارها السجناء وذويهم.
 
صفوان أبو حلا

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة