صفحات مجهولة من الدبلوماسية الروسية

في العاشر من شباط/فبراير من كل عام، تحتفل روسيا بيوم الدبلوماسي الروسي؛ ففي مثل هذا اليوم من عام 1549، أنشئت أول إدارة تُعنى بالسياسة الخارجية في روسيا.
 
بيد أن ما يميز الدبلوماسيين الروس عن نظرائهم الآخرين في العالم، هو وفرة الأدباء في صفوفهم.
 
ولم يعد سرا أن كبير شعراء روسيا ألكسندر بوشكين (1799 – 1837) عمل مستشارا في الإدارة الخارجية الروسية 14 عاما.
 
وأن الشاعر فيودور تيوتشيف، صاحب المقولة الشهيرة: “لا يمكن فهم روسيا بالعقل وحده، أو قياسها بالمقاييس.. بروسيا ينبغي الإيمان فقط!”، كان رئيسا للبعثة الدبلوماسية الروسية في ميونخ بين عامي (1822 – 1837)، وفي تورينو بين عامي (1837 – 1839).
 
أما ألكسندر غريبوييدوف، فالكثيرون يعرفونه مؤلفا لمسرحية “ذو العقل يشقى” الشعرية الرائعة، ولكن الأقلاء يعرفون أنه كان دبلوماسيا من الطراز الأول.
 
وقد أُرسل غريبوييدوف وزيرا مقيما (سفيرا) إلى بلاد فارس عام 1828، ليقتله جمهور من المتعصبين الدينيين في طهران عام 1829.
 
والدبلوماسيون الروس كانوا يهتمون منذ زمن طويل باللغة العربية واللغات الشرقية. ولا عجب أن استُدعي الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861) من مصر في عام 1840، في عهد القيصر نيقولاي الأول، للعمل مدرسا للغة العربية في قسم اللغات الشرقية في الدائرة الآسيوية لهيئة الخارجية الروسية.
 
ولم يكن مستهجنا، بعد 156 عاما من ذلك، تعيين المستعرب يفغيني بريماكوف عام 1996 وزيرا لخارجية الاتحاد الروسي.
 
وقد أثبت الأكاديمي الروسي الكبير أنْ لا ارتباط بين إمكانيات بلده العسكرية والاقتصادية ونجاح دبلوماسييها، فهي كانت متساوية في حقبة سلفه أندريه كوزيريف “السيد نعم” وفي حقبة بريماكوف، ولكن نتائج عمل الوزيرين كانت مختلفة تماما.
 
وكان الأسبوع الأخير من شباط/فبراير من عام 1998 خير دليل على ذلك؛ إذ علم بريماكوف من قناة “سي إن إن”، ذات المصادر العسكرية الواسعة الاطلاع، أن العسكريين الأمريكيين على وشك توجيه ضربة إلى العراق، وأنهم ينتظرون فقط قرارا سياسيا من البيت الأبيض.
 
ولكن “رعد الصحراء” لم يجلجل في بلاد الرافدين، وكانت هذه أجمل بشرى يتلقاها بريماكوف.
 
فقد أُوقفت العملية العسكرية قبل أن تبدأ، وذلك بفضل جهود الدول الكبرى فرنسا والصين والاتحاد الروسي، ودعم دول آسيوية وأوروبية والدول العربية والإسلامية.
 
وقد تطلب تنسيق نشاط ” أوركسترا السلام” الضخمة هذه مهارات دبلوماسية روسية كبرى، وتطلبت انضمام الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان إليها في نهايتها المظفرة.
 
ولقد قام عنان بدوره المطلوب، وتُوج بأكاليل الغار. في حين رأت الدبلوماسية الروسية أن تلتزم الصمت حينا من الدهر إزاء دورها الرئيس في الحيلولة دون وقوع الحرب، لكي لا تجرح غرور الإدارة الأمريكية.
 
وفي عام 2003، وقبل ثلاثة أيام من بدء حرب الخليج الأولى، نقل رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية بريماكوف إلى الرئيس الراحل صدام حسين اقتراح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بترك منصبه، وكان ممكنا تجنب الحرب الآتية لولا عناد الرئيس العراقي.
 
ولم يكن بريماكوف دبلوماسيا رفيع المستوى فحسب، بل وكان إنسانا رائعا.
 
وقد رثته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت حين وفاته في مجلة “فورين بوليسي” بكلمات مؤثرة، قائلة إنها “ستفتقده” (29 06 2015).
 
وأعرب هنري كيسنجر مؤخرا، في مقابلة مع قناة “روسيا” عن اشتياقه إلى “بريماكوف الإنسان”، منوها بـ”إنسانيته البالغة” (06 02 2015).
 
أما بالنسبة إلى الوزير الحالي سيرغي لافروف، الذي غادر المبنى الزجاجي في نيويورك عام 2004 إلى مكتبه في ناطحة السحاب في ساحة سمولينسكي وسط موسكو، فهو يسير على نهج سلفه الاستراتيجي في خطواته الدبلوماسية، التي تختلف عن الخطوات المستهترة، التي كثيرا ما تتخذها واشنطن، لتعض أصابع الندم على اتخاذها بعد حين.
 
وذلك ما أكده لافروف في مؤتمره الصحافي السنوي (26 01 2016)، حين تطرق إلى الاتفاق النووي الإيراني، وقال إن موسكو بذلت جهودا جبارة لإنجاح المفاوضات الدولية مع طهران (14 07 2015)؛ وذلك على الرغم من الخسائر، التي يمكن أن تتكبدها روسيا من جراء رفع العقوبات على تصدير النفط الإيراني، وزيادة المعروض من الخام، وإمكان انخفاض أسعار الذهب الأسود العالمية.
 
وأكد “شاعر سمولينسكي” عدم أخلاقية تطور دولة على حساب معاناة دولة أخرى؛ مضيفا أن بقاء العقوبات مفروضة على الجمهورية الإسلامية، كان يمكن أن يبقي أسعار النفط مرتفعة بضعة أسابيع أو بضعة أشهر، وذلك أمر تكتيكي، في حين أن العلاقات بين الدول يجب أن تبنى على أسس استراتيجية بعيدة المدى.
 
وقال لافروف إن الاتفاق على نقل مخزون إيران من اليورانيوم منخفض التخصيب إلى روسيا لم يعد بأي فائدة مادية عليها، ولكنه أسهم في توصل القوى الست الكبرى إلى الاتفاق مع إيران.
 
أما على الصعيد السوري، فيقول العارفون ببواطن الأمور إنه جازف كثيرا في عام 2013 بسعيه الدؤوب، لتجنيب سوريا ضربة أمريكية مهولة، بعد ترويج أنباء عن استخدام دمشق أسلحة كيميائية ضد المعارضة المسلحة؛ حيث توسط مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي تعهد بتسليم جميع الأسلحة الكيميائية، التي تملكها دمشق إلى السلطات الدولية.
 
وقد انتهى كل شيء بنجاح، وكتبت الصحافة الأمريكية آنذاك أن “الدبلوماسيين الروس انتزعوا من الأمريكيين خبز يومهم.”
 
بيد أن لافروف تراجع بتواضع إلى المقاعد الخلفية، ونوه مرارا بدور الشركاء الأمريكيين الرئيس في إنهاء هذه الأزمة الخطيرة، فالمهم في نظره كان درء حرب لا تحمد عقباها.
 
وهذه هي مهمة الدبلوماسيين الحقيقية: أن يفاوضوا لكي تنتفي الحاجة إلى تدخل العسكريين، الذي يؤدي إلى سقوط الضحايا ووقوع الخسائر المادية.
 
حبيب فوعاني

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة