ريتشارد هولينغهام –
هل تظن أن الولايات المتحدة حسمت صراع الحرب الباردة للوصول إلى القمر لمصلحتها؟ فلتعد التفكير إذن، فالمسابير السوفيتية غير المأهولة وصلت إلى هناك قبل أن يتخذ نيل أرمسترونغ خطوته على القمر بفترة طويلة.
قبل العاشرة مساءً بدقائق قليلة بحسب توقيت هيوستن، في 20 من يوليو/ تموز 1969، قطعت محطات التلفاز في أنحاء العالم بث برامجها لتذيع أخبارًا تاريخية.
ولاحت على الشاشات كلمات “مباشر من القمر”، مصحوبة بصورة مرتعشة تُظهر سلمًا معدنيًا، وفي الخلفية منظر يغطيه غبار من لون واحد. ثم يبدو على الشاشة حذاء طويل لرائد فضاء يحاول أن يتلمس موطأ لقدمه. بعد ذلك يقفز خارج إطار الصورة.
دارت الكاميرا ببطء لتصور منظرًا موحشًا هائلًا من الحجارة وسلاسل من التلال والجبال وفوهات البراكين.
ولم يكن صوت رائد الفضاء واضحًا حين كان يقفز مبتعدًا بضعة أمتار عن المسبار، ثم نشاهده يُخرج علمًا من إحد الجيوب في ساق بدلة الفضاء التي كان يرتديها. وكان العَلَم متصلًا بإطار مطوي، ثبتهما معًا بإحكام وزرع العلم في تربة سطح القمر.
ثم رجع أول رجل على سطح القمر خطوة للوراء، رافعًا يده للتحية. وبدا رمز المطرقة والمنجل، مضطربا في ذلك الفراغ.
إلا أنه في العالم الموازي، ليست الرحلة السوفيتية لاستكشاف القمر عصية على التصديق كما قد تظن. ويشهد شهر فبراير/ شباط الجاري هذا العام الذكرى الخمسين لأول هبوطٍ على القمر، كان في ذلك الوقت يوحي بأنه بإمكان دولة شيوعية أن تصبح بالفعل أول من يطالب بحق البشر جميعًا في القمر.
ففي فبراير/ شباط 1966، تمكن مسبار فضائي روسي، “لونا 9″، من تنفيذ أول هبوط هادئ وعلى نحو خاضع للرقابة على سطح القمر.
وكانت هذه البعثة بمثابة معجرة هندسية ساهمت في الإجابة عن تساؤلات أساسية عن سطح القمر ومهّدت الطريق أمام البعثات الأولى المأهولة إليه.
ويقول دوغ ميلارد، أمين الجناح الفضائي بمتحف العلوم بلندن، الذي يستضيف حاليًا معرضًا يضم مجموعة غير مسبوقة من مصنوعات فضائية روسية ذات قيمة تاريخية: “في منتصف الستينيات، كان كل من الأمريكيين والسوفييت يحاولون الوصول إلى القمر”.
وتابع: “لكن قبل أن ترسل أي إنسان إلى القمر، عليك إنزال مركبة روبوتية على سطح القمر أولًا، ونحن ننزع إلى نسيان كل ما حققه الجانب السوفييتي من نجاح.”
ويتكون المسبار الروسي “لونا 9″، الذي يبلغ طوله نحو ثلاثة أمتار، من قاعدة مربعة الشكل، وله أربعة أرجل، ويشبه مسبار القمر أبوللو إلى حدِ ما. وعلى قمة “لونا 9″، توجد اسطوانة رأسية يعلوها قبة بيضوية الشكل تشبه الزهرة التي لم تتفتح أوراقها بعد. تصميم يتفتح
يقول ميلارد مشيرًا إلى نموذج هندسي رأيناه معروضًا في المعرض: “هذا الجزء هو المسبار الفضائي نفسه. وعلى مسافة متر أو مترين من سطح القمر، ينفصل هذا المسبار، ثم تتفتّح البتلات الثلاث، وتعيد نفسها إلى الوضع الصحيح كدمية الأطفال. إنها طريقة شديدة الذكاء بالفعل.”
وفي الثالث من فبراير/ شباط 1966، قرر مخططو البعثة، بدلًا من الإعلان ببساطة عن الهبوط على سهل قمري مترامي الأطراف، يسمى محيط العواصف، أن يروجوا لبعثتهم عالميًا بطريقة بارعة.
يقول ميلارد: “أُرسلت الصور إلى الأرض بتردد يسهل التقاطه، وأعتقد أن هذا كان متعمدًا نوعًا ما. فحينئذ تلقاها تليسكوب جودريل بانك اللاسلكي في إنجلترا وبُثَت حول العالم.”
وبدا لقراء الجرائد في هذا الوقت أن روسيا في طريقها إلى تحقيق انتصار على الأمركيين في السباق الفضائي. وقد وصف مدير مرصد جودريل بانك، وهو أحد علماء الفلك الإشعاعي المرموقين، سير بيرنارد لوفيل، هذا الهبوط بأنه “لحظة تاريخية”، وأضاف أنه كان بمثابة “الإنجاز الحاسم الذي يُمهد لهبوط مأهول على سطح القمر”.
وإلى جانب إرسال تسع صور، تمكنت البعثة من حل تساؤل كان يقض مضجع مخططي البِعثات من كلا جانبي الستار الحديدي. فقد كانت ثمة مخاوف من أن سطح القمر مغطى بنوع من أنواع “الرمال المتحركة” العميقة، والتي ربما تبتلع أي مسبار فضائي. وقد أثبت مسبار “لونا 9” أن الأرض صلبة، وهو ما ساعد الروسيين والأمريكيين في المضي قدمًا في برامجهم المأهولة.
كان التصوير البياني للمسار الذي سيُتبع من أجل إنزال رائد فضاء سوفييتي على سطح القمر مشابهًا للخطة الأمريكية التي رُسِمت لأبوللو. إذ كان من المقرر أن يُطلق صاروخٌ ضخمٌ وحدةً انفصاليةً ومسبارًا فضائيًا إلى مدار حول القمر.
وفي حين كانت تشتمل المركبة الفضائية أبوللو، التي كان على متنها ثلاثة أشخاص، على ممر يربط وحدة القيادة بالمسبار الفضائي، فإن في التصميم السوفييتي كان من المقرر أن يسير أحد أعضاء الطاقم المكون من رجُلين في الفضاء نحو المسبار ثم يهبط إلى سطح القمر بمفرده.
وغني عن القول أن أليكسي ليونوف هو المرشح ليكون “أول من سار في الفضاء” على مستوى العالم. ويضم متحف العلوم أيضًا المسبار القمري “إل كيه- 3″، الذي تلقى أليكسي ليونوف تدريبه عليه، وهو مسبار طوله ثلاثة أمتار ومصمم وفقًا لأساليب هندسية متطورة.
يقول ميلارد: “يقف رائد الفضاء الروسي عند أجهزة القيادة، مثبتًا بأربطة لئلا يطفو في الفضاء، ويحدّق خلال الزجاج الأمامي صغير الحجم المائل لأسفل باتجاه سطح القمر أثناء الهبوط. تستطيع أن تتصور ليونوف وهو يتحكم في الهبوط وكان عليه أن يجد مكانًا للهبوط في وقت أقل من الوقت الذي أُتيح لنيل أرمسترونغ، ولذا فربما كانت رحلته أخطر من أبوللو”.
مركبة روبوتية للتوجيه
تضمنت الخطة السوفييتة في ثناياها الكثير من جوانب الأمان التي افتقدها برنامج أبوللو الأمريكي. فلم يكن المسبار الفضائي مزودًا بمحرك بديل فحسب، بل أيضًا كان من المقرر إرسال مسبار غير مأهول إلى القمر مسبقًا.
يقول ميلارد: “كان هذا سيستخدم في نهاية المطاف إذا ما أخفق مسبار ليونوف. وكانت المركبة الروبوتية الطوافة ستُطلق أيضًا قبل هبوط ليونوف لترشده في رحلته. كما كان من الممكن استخدامها في حالة الطوارئ لتنقل رائد الفضاء الروسي إلى المسبار البديل لكي يعود إلى الأرض سالمًا”.
كانت الخطة طموحه ومدروسة دراسة متأنية وناجحة. فقد اختُبر المسبار القمري، غير المأهول، بنجاح في مدار الأرض. وقد وصلت أول مركبة قمرية روبوتية، “لونوخود 1″، في حجم سيارة صغيرة تقريبًا، إلى سطح القمر سنة 1971.
ولكن لسوء حظ برنامج الفضاء الروسي، لم يكتمل إطلاق الصاروح “إن 1” العملاق، الذي كان سيقل ليونوف إلى القمر، بنجاح. وهذا الصاروخ الذي بلغ طوله 105 أمتار، ما يعادل 346 قدمًا، أي لا يقل عن طول ساتورن 5 الأمريكي، كان عملاقًا بين الصواريخ. فقد كان يضم في المرحلة الأولى وحدها 30 محركًا.
وقد اكتمل الصاروخ “إن 1” على عجالةٍ على إثر وفاة كبير مصممي الصواريخ السوفيتي، سيرغي كوروليف، التي لم تكن في الحسبان، ولم تُختبر المحركات اختبارًا كافيًا على أرض الواقع قبل أول إطلاق للصاروخ سنة 1969.
وباءت جميع المحاولات الأربعة لإطلاق صاروخ “إن 1” بالفشل، فلم تتجاوز الأولى دقيقة واحدة، وفي الثانية سقط الصاروخ على منصة الإطلاق محدثًا كرة نارية، وفي الثالثة تفكك، وفي الرابعة انفجر.
وفي هذا الوقت، سنة 1972، كان سباق نقل الإنسان إلى سطح القمر قد حُسم بالفعل، على الرغم من أن البرنامج السوفيتي للوصول إلى القمر لم ينته رسميًا حتى 1974.
ولكن علينا ألا ننسى أن في مجال المسابير الروبوتية، وصل الروس إلى القمر أولًا. وفي يناير 1973، بعد أن ترك جين سيرنان آخر آثار أقدام على سطح القمر بأسابيع قليلة، بدأت المركبة الروسية لونوخود الثانية بعثة لمدة أربعة أشهر، إذ كانت تسير ببطء على سطح القمر وترسل إلى الأرض صورًا عالية الوضوح. فلو كان برنامج صاروخ “إن 1” قد بدأ قبل سنوات قليلة، لكان ألكيسي ليونوف في واقع الأمر هو أول رجل يصل إلى سطح القمر. ويقول ميلارد محذرًا، إن بعض الناس، رغم ذلك، ما كانت ستصدق هذا أيضًا.
ويقول ميلارد: “فلو كان ليونوف أول رجل على سطح القمر، لكان العَلَم اختلف، وإن كان سيظل خفاقا، لأن العلم على سطح القمر، ما إن تلمسه، لن يكف عن أن يكون خفاقا”. وتابع: “وستبدأ نظريات المؤامرة نفسها من جديد.”
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي