عن ألمانيا التي لا تريد أن تكون قوة عظمى

 

وسيم ابراهيم –

الدولة الأكبر في الاتحاد الأوروبي، قوة الدفع الاقتصادي والسياسي الأهم، لكن التي لا تريد أن تكون في القيادة. الأسباب كثيرة، في كل اتجاه، ولا تغيرها إشارات واشنطن للحاجة إلى شراكة جديدة مع ألمانيا، شراكة في القيادة، في حال تم الطلاق البريطاني فعلاً. لكن أحياناً لا يكون هناك فرقٌ حاسم بين «لا تستطيع» القيادة و «لا تريد» أن تقود، خصوصاً حينما يكونان خانتين لا حدود بينهما، كما هي حالة برلين بالضبط. هنا يصح مع ألمانيا تعبير «نفسُك هي أكبر عدو لك»، لتنعكس في الحيرة أمام فتح المجال لخروج بريطانيا: فرصةٌ يجب اغتنامها، أم نقمةٌ يجب تجنبها؟

الجميع بدأ يهجس بقصة القيادة الأوروبية منذ الاستفتاء البريطاني. الولايات المتحدة ستفقد، إذا خرجت حليفتها الأوثق، ثقلاً سياسياً كبيراً للتأثير في الاتحاد الأوروبي وتوجيه العلاقة معه. إدراك القيادة الأميركية لهذه الحقيقة أدى لانخراطها في حملة البقاء، ثم لاحقاً، بالمثل، لإبقاء الباب مفتوحاً أمام إمكانية التراجع عن الخروج. لكن النقاش أثير مباشرة حول البحث عن حليف بديل، يمكن نقل الاستثمار السياسي والديبلوماسي للعمل معه. لم يجد كثيرون حاجةً لكثير من الحيرة، فألمانيا بالنسبة لهم كانت الخيار الأفضل الذي يمكن التعويل عليه فعلاً.

من بين أكثر المنظرين لهذا الخيار، هو نيكولاس بيرنز، المستشار السياسي لحملة المرشحة الديموقراطية للسباق الرئاسي الأميركي هيلاري كلينتون. تقديراته تأتي من مسيرةٍ مهنية حافلة في السياسة الخارجية، إذ شغل سابقاً منصباً مهماً في وزارة الخارجية الأميركية، وكان أيضاً سفيرها لدى «حلف شمال الأطلسي». لم يتردد في القول إن أميركا ستحتاج «شريكاً يمكن العمل معه جدياً، وأعتقد أنه يجب أن يكون ألمانيا»، لكنه لفت إلى أنه «كنت في برلين خلال الاستفتاء البريطاني، الألمان مترددون جداً في وضع أنفسهم في الصدارة، لكي لا يكونوا مضطرين لرؤية أنفسهم قوة عالمية وقوة عسكرية».

لكن ذلك لا يغير في رأي بيرنز أن لا مفرّ من القيادة الألمانية، تأكيداً على أن هناك حاجة إلى ألمانيا أقوى في حال خروج بريطانيا. يجب انتظار الانتخابات العامة السنة المقبلة، لرؤية أي تفويض ستحصل عليه المستشارة أنجيلا ميركل لتحكم لولاية أخرى. لكن الديبلوماسي المخضرم يرى إشارات مشجعة من برلين، أهمها الاستعداد لرفع النفقات العسكرية لمستوى اثنين في المئة من الناتج الإجمالي كما طالب «الناتو» مراراً أعضاءه، فكما يقول إنه «خلال حديث لها في برلين، قالت (ميركل) إنها تريد جدياً فعل ذلك، إنها المرة الأولى التي أرى فيها المستشارة تفعل ذلك، وهذا مهم للغاية».

القيادة لمزيد من الصدام مع روسيا

قمة «الاطلسي» المقبلة، بعد أيام، في العاصمة البولندية وارسو، ستكون مؤشراً على مستقبل الخيارات الممكنة. يفترض أن يصادق زعماء الحلف على نشر كتائب متعددة الجنسيات، في أربع دول أوروبية متاخمة لروسيا، كرسالة ردع لموسكو. لكن الآراء في برلين تختلف إزاء ذلك. بالأحرى، هناك اعتراضات صريحة على مزيد من التوتير. برز ذلك عبر انتقادات أطلقها وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، حينما قال إن «صرخات الحرب وجلبة السلاح تأتي بنتائج عكسية»، قبل أن يشدد «سيكون مخطئاً أي شخص يعتقد أن دوريات رمزية لدبابات على الحدود الشرقية للحلف ستزيد الأمن».

الحديث عن الدبابات ليس بلا مغزى. شهد العام الحالي دخول أول دبابة ألمانية إلى بولندا منذ الحرب العالمية الثانية. جاء ذلك ضمن المساهمة الألمانية العسكرية في إطار إجراءات الحلف «الأطلسي» لضمان تأمين دوله، في استراتيجية «احترازية» يسميها مواجهة «عدوانية روسيا».
ألمانيا ليست بعيدة أصلاً عن البيئة الحاضنة لهذا الصراع. الأزمة الأوكرانية، ضمُّ روسيا لشبه جزيرة القرم، العقوبات الاقتصادية المؤلمة لموسكو، كلها كرة ثلج تدحرجت بعد خلاف جذري مع الكرملين حول توسيع النفوذ الأوروبي باتجاه الشرق. الأوروبيون لديهم مشروع «الشراكة الشرقية» مع ست دول كانت فضاء نفوذ تقليدي لروسيا، كما رفضوا إشراك موسكو في المفاوضات حول اتفاقيات الشراكة تلك.

ألمانيا محركٌ أساسي لهذا المشروع، كما أن ميركل ذهبت إلى تحدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. شددت على أن المسألة تمس الأوروبيين وشركاءهم، وهي ليست معنية لا باستشارة طرف ثالث، ولا بالعمل على أساس أنها مناطق نفوذ تقليدية. صحيح أن باريس وبرلين بادرتا لاحقاً لاحتواء الصراع، بعدما تحول إلى حرب على حدود التكتل الأوروبي، لكن لم تظهر تراجعاً عن أفق التوسع الاقتصادي والتجاري، كوسيلة مفضلة لممارسة «القوة الناعمة» في إيجاد مناطق نفوذ جديدة.
القيادة من الخلف ليست قبعة تخفي
وجدت برلين نفسها وجهاً لوجه أمام تبعات القيادة من الخلف. مشروع «الشراكة الشرقية» أوروبي، لكنها كانت أبرز مصمميه بوصفها أيضاً المستفيد الأهم من فتح أسواق جديدة، حتى لو لم تكن معنية كثيراً بنقل عدوى «الثورات البرتقالية» إلى موسكو كما يمكن أن تطمح واشنطن. الخسائر وقعت، والآن هناك العديد من الدول الأوروبية تريد التراجع عن العقوبات، فيما تجد ألمانيا نفسها في صدارة المدافعين عنها، خصوصاً إذا خرجت بريطانيا، مع دول أوروبا الشرقية التي ترى أن أمنها القومي مهدد بطموحات بوتين.

عيارٌ أشد من الملامة تواجهه برلين مع القيادة من الخلف في أزمات أخرى. قادت حكومة ميركل الاتحاد الأوروبي للخروج من أزمة اليورو، لكن النتيجة كانت حلول التقشف وضبط الموازنات. إنها الحلول ذاتها التي يتم الآن تحميلها مسؤولية زيادة نسبة الاوروبيين غير الراضين عن الاتحاد الأوروبي، علاوة على صعود الحركات الشعبوية المعادية للمشروع الأوروبي. تلك المسؤولية تضاعفت مع اعتبار أن برلين، أيضاً، مسؤولة عن «أزمة اللاجئين»، كما تسميها أوروبا، لكون ميركل شخصياً أعلنت سياسة «الأبواب المفتوحة». سلسلة من اللوم لم يكن مفاجئاً أن تصل إلى اعتبار أن ميركل تتحمل قسطاً مهماً من المسؤولية عن تصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد.

الأمر لم يكن بلا مقدمات. بعض قادة حملة الخروج اعتبروا أن الاتحاد الأوروبي يمثل «مشروع الدولة الفدرالية العظمى»، فيما شبهه عمدة لندن السابق بوريس جونسون بمشروع التوسع النازي. كل ذلك يجعل حيرة برلين مفهومة تماماً. فمن جهة، سيفسح خروج بريطانيا المجال أمام زيادة الوحدة الأوروبية، بعدما كانت تلعب دور الفرامل، لكن ذلك سيترك فراغاً يفسح أمام ضرورة التقدم لموقع القيادة.

حينما قامت برلين فعلاً بهذا الدور، وإن كان من خلف المؤسسات الأوروبية في بروكسل، تلقت رداً سريعاً حول الأثمان الممكنة لذلك. كان لدى اليونانيين كل ما يكفي من المصاعب الاقتصادية للغضب، ليأتي فرض برلين وبروكسل مزيداً من التقشف ليفجر الاحتقان المتراكم. لم تمانع وسائل الإعلام اليونانية في استعادة فترة الحكم النازي ورموزه، ليبدو واضحاً أن الحساسية من القيادة الألمانية لم تخمد تحت رماد عقود السلام.

قدر الخروج إلى الواجهة

المشكلة أن برلين لا تشبه الآخرين في شيء، رغم بعض التقاطع مع الشمال الأوروبي. تمثل ألمانيا نحو 23 في المئة من الناتج الأوروبي الإجمالي، ولديها فوائض مالية هائلة. حتى مع الأزمة، لامست الفوائض عام 2014 سقف 300 مليار يورو. طبعاً، لا تحتاج الاستدانة، لذا لا يؤثر عليها التشديد على الآخرين أنه: لا عودة لسياسة النمو عبر الاستدانة. العديد من الاقتصاديين اعتبروا أن ذلك يمثل «المشكلة الكبرى»، لأن لا بديل عن الدين الحكومي لمواجهة البطالة العالية ولتحريك النمو.

القيادة الألمانية واعيةٌ تماماً لكل تلك الشروط، لذا يجري محاذرة الحديث الآن عن زيادة الاندماج الأوروبي. أخرجت مع بروكسل الحديث عن مبادرة «الجيش الأوروبي»، قبل أن تجري فرملتها باعتبارها تبقى أفقاً بعيداً. الحساسية التاريخية تجري محاولات لمعالجتها بطرق مختلفة. حينما تسربت بعض أوراق الكتاب الأبيض، الذي تعده الحكومة الألمانية حول الاستراتيجية الأمنية، خرج مقترح آخر لمواصلة امتصاص الحساسية من القيادة الألمانية، فللمرة الأولى تطرح فكرة فتح الجيش الألماني لضم جنود من دول أوروبية أخرى.

الخروج البريطاني لا يزال بالإمكان، على الأقل من حيث المبدأ، التراجع عنه. لكن ألمانيا ترى أن هذه الأزمة مختلفة. هذا ما قالته ميركل في بروكسل قبل أيام. بعض من عايشوا السياسة الألمانية من برلين يقولون إن القناعة السائدة، تلك التي يمكن استخلاصها وإن لم تقل صراحة، أن الاتحاد الأوروبي منفذ للقوة الألمانية المقموعة بعد الحرب العالمية الثانية.

القيادة من الخلف كانت ممكنة: الحكم من بروكسل بقواعد الانضباط المالي، عبر مراقبة الموازنات والإنفاق والعجز، الأمر الذي لا يمس فقط صلب سيادة الدول بل يتحكم بمجمل سياساتها. ليس معروفاً إن كانت رفاهية هذه القيادة، على مضاعفاتها، ستكون ممكنة مستقبلاً إذا صارت القيادة من الصدارة قدراً لا مفر منه.

http://assafir.com/Article/1/501428

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة