عماد أبو الفتوح – أراجيك
كل دولة عربية – بلا استثناء تقريباً – لها مشاكل ظاهرة تشمل أبعاداً سياسية ودينية وطائفية واجتماعية واقتصادية… لكن تظل الأزمة السورية في الواجهة الآن، باعتبارها الأزمة الكبرى التي تمثل تهديداً غير مسبوق لمفهوم العروبة ذاتها – إن جاز التعبير – التي بُنيت على مدار أكثر من 14 قرناً، كانت دمشق حجر الأساس فيها، بكل مراحلها التاريخية، وتقلباتها العصرية…
الصورة قاتمة جداً، مع كل الاحداث الدموية التي تشهدها سوريا، ومشاهد مئات الآلاف من الجثث والمجازر والإرهاب والتطرف والقنابل والتعذيب واللاجئين المُوزعين في أقطار الأرض، والأطفال الأيتام وذوي الإعاقة…
هذا ليس كلامي الشخصي، وليس تنظيراً معجوناً بالآمال الزائفة أو المُجاملة، أو الرغبة في كتابة مقال تحفيزي آخر في ظل أوضاع مأساوية لا تشي بالخير – حالياً -…
بل هي حقائق يسهل معرفتها ببساطة، من خلال قراءة سريعة للتاريخ… ربما أنت تعرفها كذلك، ولكن صعوبة الاحداث وقسوتها، وتركيزك مع مأساوية الأوضاع الحالية، تعمي عينيك عن إدراك أمل حتمي لا محالة!
إذا تركت الحاضر قليلاً – بكل مآسيه وآلامه وحروبه ونزاعاته – واستشرفت المُستقبل… فالتاريخ، والمُعطيات في الوقت الحاضر يقرران أن مستقبل سوريا بعد انتهاء الأزمة السورية سيكون مُزدهرًا، لهذه الأسباب…
لكل أمة عظيمة… حربها الأهلية!
رغم أنها قاعدة غريبة، وربما مثيرة للسخرية المريرة… إلا أنها حقيقة مُثبتة في كل كتب التاريخ، شئتَ أم أبيت، رضيت أم لم ترضَ، اقتنعت أم لم تقتنع!
الولايات المتحدة الأمريكية
القوة العظمى في العالم الآن… لم تصبح كذلك إلا بعد اندلاع (الحرب الأهلية الأمريكية) الهائلة، التي يعرفها كل قارئ بسيط في التاريخ، والتي يصنفها البعض باعتبارها مثل (الحرب العالمية الأولى) في قارة أمريكا الشمالية، تشبيهاً لعنفها وأنهار الدماء التي سالت فيها…
استمرت الحرب لمدة أربع سنوات، وراح ضحيتها أكثر من 600 ألف جندي مقاتل، وملايين غير معروفة من المدنيين… واستخدمت فيها نداءات دينية وعرقية واجتماعية وطائفية وعنصرية لأبعد مدى، حتى انتهت في العام 1865 م…
ماذا كانت النتائج؟ إنهاء الرق، وتأسيس حالة الاتحاد، وتفعيل النظام الفيدرالي الجامع للولايات الأمريكية، وحل الكثير جداً من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعرقية المُعقدة والمتشابكة… والعمل على مشروعات إعمار استغرقت حوالي 10 سنوات، نتج عنها تحوّل أمريكا لبوادر قوتها العظمي في نهاية القرن التاسع عشر…
ماذا عن روسيا؟
الوضع كان أكثر ألماً، وأكثر جلاءً في نتائجه المُبهرة كذلك… فمع اندلاع الثورة الروسية، كُتب في نهايتها (الفصل الاخير منها) وقوع حرب أهلية دموية مُروّعة، استمرت حوالي خمس سنوات (1918 – 1923)، وخلفت أكثر من 13 مليون قتيل… وأكثر من مليون مهاجر روسي (هجرة دائمة)…
الرقم صحيح… 13 مليون قتيل، سقطوا في حروب ومجاعات ولجوء ومصرع النساء والأطفال وانتشار الأوبئة… وبعد نهاية الحرب، وصف المؤرخون البلاد بأنها خراب غير مسبوقة، لدرجة عدم وجود قطارات أو مناجم، او حتى خيول لنقل الناس والأمتعة!
النتيجة؟ تكوين الاتحاد السوفيتي، الدولة العظمي الحمراء، التي انطلقت في تحقيق إنجازات اقتصادية وعلمية وزراعية وصناعية وعسكرية وحتى فضائية غير مسبوقة، جعلته يصمد أمام غزو هتلر النازي، ويتحول للقوة العظمى المناوئة لأمريكا سنوات طويلة حتى انهياره في بداية التسعينات…
اسبانيا .. أيضاً كانت على موعد دموي غير مسبوق مع حرب اهلية مُدمرة، اشتعلت في العام 1936 واستمرت لمدة 3 سنوات بين القوميين والفوضويين والوطنيين والمحافظين، وتدخلت فيها – مثل أي ثورة في التاريخ – عناصر خارجية وداخلية… خلّفت أكثر من مليون قتيل… ودمار هائل لم يُصب اسبانيا في تاريخها كله، وعدة ملايين من النازحين والمصابين…
النتيجة؟ بدأت اسبانيا في مشوارها نحو الحداثة بصعوبة شديدة، وتحوّلت إلى ملكية بقيادة الطاغية فرانكو، وعانت عصراً من الاستبداد… انتهى بلا رجعة مع الوعي الوطني بالتطور الديموقراطي والاقتصادي، الذي حوّل إسبانيا الآن إلى واحدة من أقوى دول المجموعة الاوروبية…
ماذا عن الصين، التي اندلعت فيها حرب أهلية مُدمرة استمرت من قرابة 14 عاماً (1927 – 1941)… ثم توقفت فجأة لأن اليابانيين قاطعوا الحرب الأهلية بغزو الصين سنة 1941! ثم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عادت الصين تارة أخرى لحربها الأهلية، استمرت من العام 1945 حتى 1950…
عدد القتلى عدة ملايين – على أقل تقدير 4 مليون قتيل – وعدد الجرحى ملايين مُضاعفة… ومع انتهاء الحرب، أصبحت الصين من أعظم وأقوى إمبراطوريات العالم من حيث القوة العسكرية والتصنيع والابتكار والاختراقات التكنولوجية!
يبدو أن مرحلة (الحرب الأهلية)، أو (الحروب الخارجية المُدمرة) كالتجربة الألمانية واليابانية مثلاً، هي المرحلة الأساسية التي يجب أن تمر بها كل الأمم المُزدهرة، والأمثلة غير التي تم ذكرها كثيرة جداً…
دولة مركزية الثقافة والتراث
وهي القاعدة التي تبنى عليها أي شعارات تقدّمية، ومنهجيات إعادة التعمير بعد الدمار…
دائماً تلاحظ أن الدول ذات التاريخ العريق، تحاول بشكل مُجتمعي استعادة أمجاد تاريخها بشكل سريع بعد أن تتعرض لأزمات عنيفة… ليس أولها او آخرها ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، أو حتى تركيا بكل تراثها العثماني، أو اليابان بحضارتها الذاتية، أو الصين والهند، وغيرها من الدول العريقة…
مفهوم الأصالة والاعتداد الذاتي بالتراث الوطني مهم جداً في التطوّر السريع للأمم بعد النكبات، لأنه يحمل معاني متعلقة بالكرامة والأمجاد الجماعية، والرغبة المحمومة في تدارك التاريخ وتجاوز أخطاؤه، والظهور بالكبرياء الوطني أمام العالم ككل بمظهر (لكل جواد كبوة عابرة، يعود بعدها للسباق)…
سوريا تعاني من حرب أهلية… ورواندا عانت من حرب أهلية… ولكن الطبيعي والمنطقي أن اهتمام السوري بالعودة سريعاً إلى خريطة العالم، ستكون أسرع بكثير من اهتمام الرواندي بنفس الهدف؛ لأن الاول يحمل – إلى جانب الهدف الأساسي بالعودة إلى الحياة الطبيعية من الرفاهية والازدهار في مستقبل سوريا بعد انتهاء الأزمة السورية – اعتداد ذاتي بتراث تاريخي أكبر حتماً من الدور الذي لعبته رواندا في التاريخ، يجعله يواجه التحديات الجماعية بإصرار أكبر لاستعادة ذاكرته الحضارية التي رُبّي عليها جيلاً وراء جيل…
شباب… الكثير من الشباب
الطرف الرئيسي من المعادلة الواقعية بخصوص تحقيق ازدهار سريع في مستقبل سوريا بعد انتهاء الأزمة السورية ، أن مُعظم الإحصائيات تقرر حقيقية أن 50% من الشعب السوري على الأقل هم من فئة الشباب…
بهذه النسبة، فظروف سوريا أفضل بكثير جداً من ألمانيا مثلا بعد الحرب العالمية الثانية، التي كانت تعاني بشدة من انخفاض مخيف في نسبة الشباب والمراهقين بسبب الحرب، وارتفاع نسبة النساء وكبار السن من جهة أخرى، مما عطّل – في البداية – ظهور بوادر إصلاحية سريعة بعد الحرب في مشروعات الإعمار، وجعل الألمان فيما بعد يعتمدون على قوى عاملة من الخارج (الأتراك تحديداً)…
سوريا مليئة بالشباب… علامة أخرى مهمة جداً على القدرة في اختزال الزمن المطلوب لإعادة الإعمار بمعدلات سريعة جداً…
موارد متكافئة مع التعداد السكاني
إذا صحّت، المُقارنة بين اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وسوريا في حربها الأهلية تؤكد أن الوضع الذي تنطلق منه سوريا أفضل بكثير جداً من ناحية الموارد والتعداد السكاني…
فاليابان عانت طوال تاريخها (ومازالت) من نضوب أرضها الصخرية من موارد الوقود مثل النفط وغيرها من المعادن الطبيعية… على عكس سوريا الذي يعرف أي جغرافي إنها مليئة بالبعض من كل الموارد الطبيعية المعروفة في المنطقة العربية، كالغاز والنفط والمعادن… فضلاً عن مواردها الطبيعية المتمثلة في ساحل طويل، وموارد صناعية وزراعية طائلة، وتراث سياحي ضخم…
مساحة سوريا كبيرة جزئياً، وأرضها مليئة بالموارد الطبيعية والجغرافية، وتعتبر أبرز بوابة عربية لأوروبا حيث تقع في حدودها المُتاخمة مباشرة… فضلاً عن تعداد سُكاني متوسّط لا يزيد عن 22 مليون نسمة…
بعكس دول أخرى مُكتظة بالسكان – مثل الهند وباكستان ومصر والصين وغيرها – التي مهما تم بذل إصلاحات اقتصادية، سيكون الشعور بنتائجها على المستوى الشعبي بطيئاً جداً وربما غير محسوس… لعدم التكافؤ بين تعداد السكان الضخم والموارد المتاحة…
من حيث الموارد وتكافؤها مع التعداد السكاني، سوريا وضعها أفضل مائة مرة مقارنة مع اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية… قطعاً!
بعثات (شعبية) للخارج!
بعد اندلاع الثورة السورية، فاق عدد السوريين الذين غادروا البلاد ال 3 ملايين سوري… منهم من توجّه إلى أوروبا، وامريكا الشمالية… ومنهم من توجه إلى الدول العربية، وحتى الدول الافريقية البعيدة…
معروف أنه في حركة تطوّر أي بلد للحضارة والرقي، تعتمد الحكومات على مبدأ (البعثات الخارجية) لمواطنيها… طلبة الجامعات… وحتى الإداريين والفنيين والمُبدعين، طلباً لتحصيل آخر ما وصلت إليه الدول المتقدمة، ثم العودة لتطبيقها في البلاد…
في سوريا الوضع أكثر انفتاحا… فمع ملايين السوريين الذين غادروا البلاد، كل فرد منهم خاض تجربته الشخصية في الخارج، وذاق حُلوها ومرّها، مميزاتها وعيوبها… إذا عاد نصف هذا العدد – فرضاً – إلى سوريا بعد الحرب، وقام كل شخص بتطبيق (فكرة) أو (خبرة) إيجابية تعلمها في الخارج… أو عمل على استحضار أفكار جديدة رآها وعايشها في دول لم يتسنّ له زيارتها قبل الحرب…
فالنتائج – حتماً – ستكون أفضل وأسرع من مجرد إرسال بعثات تعليمية أو أكاديمية أو مهنية للخارج… في الحالة السورية لدينا هنا (بعثات شعبية) – بالمعنى الحرفي – عائدة مُحمّلة بخبرات لا حصر لها في الثقافات، والممارسات، والأفكار… تكفي لتسريع عجلة التنمية والتحضر والتطور بشكل سريع جداً، على المستوى الشعبي الجماهيري…
وليست مجرد (بعثات أكاديمية أو تعليمية) على مستوى النخب أو المتعلمين أو كبار السن أو الوظائف العليا…
العجلة تم اختراعها منذ زمن طويل
لا حاجة للبداية من الصفر في تشكيل الوعي الجماعي السوري بعد الحرب، مثلما فعل الألمان واليابانيين والاسبان والروس وغيرهم، لسنوات طويلة شاقة عسيرة لتجاوز الكبوة التي مرّت بلادهم…
نحن في زمن يختصر حركات الإدارة والتقدم السياسي والاجتماعي التي كان يُمكن إنجازها في 10 سنوات، فقط في عام واحد… ثورة الاتصالات في كل شيء، عالمية الثقافة وإنسانيتها، التعليم عبر الإنترنت، مفاهيم البناء الديموقراطي، منهجية البناء الاقتصادي…
باختصار، لن نخترع العجلة من جديد… ونحن نعيش في عصر – لحسن الحظ – لا يسمح لأحد للعودة للوراء أبداً لاستلهام مواد تراثية انتهت، أو صراعات طائفية قديمة، أو طرق تفكير مُنقرضة…
الإبداع الداخلي المحلي عنصر فعّال طبعاً في كل دول العالم، ويعطيها خصوصيتها عن الآخرين… ولكنه يظل عامل إضافي، لثوابت عالمية في الإدارة والاقتصاد والسياسة والتطور الإنساني، نتائجها مؤكدة في حال تطبيقها، سواءً توافر عنصر الإبداع أو لا!
معجزات ما بعد الدمار
كلما زاد الخراب، كلما زادت فرص الإسراع في التعمير والازدهار…
قانون طبيعي يمكن تفسيره إذا تأمّلته… لأن الخراب الهائل الناتج عن أي حرب التاريخ يؤكد أنه كلما زاد الخراب في البلاد، زادت فرص سرعة إعمارها… وقلت فرص الغوغائية… وتضاءلت الرغبة في الانتقام… وتبددت مفاهيم العنف والاقتتال والسعي وراء المكاسب السياسية والاقتصادية…
السبب في هذه الحالة الغريبة – وربما غير المنطقية لمن يعيشون بمبدأ الصراع والانتقام – أن المعركة تتحوّل في نهايتها من معركة أهلية، إلى معركة مجتمع كامل يصارع من أجل البقاء ذاته… الحالة الإنسانية البدائية الأولى، المنزوعة من كافة نزاعات المصالح والأهواء…
، لا يتيح الفرصة أصلاً للمُتقاتلين للتفكير بالعودة للانتقام أو اغتنام مكاسب سياسية في وطن مُنهك تماماً… الخراب الكبير لا يتيح مكاناً للصوص والسارقين وأباطرة النهب العام، لأنه لا يوجد شيء يُمكن سرقته أساساً…
الصراع من أجل بناء منزل، ومبنى، ومصلحة حكومية، وقطاع مصرفي وتنظيم المرور… الإنهاك المُجتمعي الذي يصل لدرجة التعالي عن أي صراع (ديني / سياسي / حزبي / طائفي / طبقي)، إلى صراع مُجتمع كامل من أجل الوصول إلى سبل الحياة العادية ذاتها…
لا يوجد أفضل من هذه القاعدة للانطلاق في التعمير بعد الحرب… وهي القاعدة التي انطلقت منها كل الدول الحديثة حالياً، وأثبتت نجاحها دائماً…
كلما ازداد الألم، زاد الأمل لتحقيق نهضة ورفاهية تدوم أطول… هذه هي الخلاصة التي يُمكن اعتبارها كقانون حقيقي أثبتته مئات التجارب البشرية على مدار التاريخ…
العالم كله حولنا أصيب بالآلام والأوجاع والمجازر والدمار، ربما أكثر بكثير مما أصاب بلادنا العربية عموماً… والعالم كله – بلا قدرات خاصة أو مواصفات سحرية – تجاوز هذه المحنة، وحوّلها إلى منحة…
أما إذا كنتَ تعيش بالعقلية المذعورة، التي تجعلك تلقائياً تعمل على وأد هذه الحقائق المذكورة أعلاه، وتتوهم بعلل أن الشعب العربي لا يمكن مقارنته بالشعب الألماني والياباني والأمريكي والإسباني والصيني… ومقتنع تماماً أنهم الأسياد المُظفرين العباقرة، الذين لا يمكن أن نقارن أنفسنا بهم، أو نساهم في إعادة بناء وطننا، بأفضل مما قاموا به…
فتأكد أنك – أنت تحديداً – العقبة الوحيدة التي من الممكن ان تؤخر إعادة إعمار هذه المنطقة من العالم!
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي