هافينغتون بوست عربي –
أثار تقرير نشره مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن الإسلام في السعودية، سيلاً من الردود والتغريدات والتعليقات، خاصة من القراء السعوديين الذين شككوا بوجود “مؤامرة” ضد المملكة.
فبعض القراء السعوديين جاءت ردودهم غاضبة على التقرير الذي نشر تحت عنوان: عضو بهيئة “الأمر بالمعروف” دعا لمزيدٍ من الحريات فتلقى تهديداتٍ بالقتل، ويتناول فيه الكاتب علاقة الدولة بالمؤسسة الدينية وإسكات ما أسماه بـ”بالأصوات التي تعطي تفسيرات مختلفة عن التفسير السائد للشريعة في السعودية”، وعلاقة التقاليد بالدين وأوضاع النساء في السعودية.
وقال هؤلاء المعلقون إنهم فخورون بطريقة ممارسة دولتهم لشعائر الدين ومن تمثيلها للإسلام. بينما ذهب آخرون إلى أن المقال جزءٌ من مؤامرة غربية لإيذاء المملكة والتشهير بها، أو أن الكاتب لم يوضح وجود تنوع في الآراء الدينية بين المواطنين السعوديين.
كما انتقد قراء آخرون استخدام لفظة “الوهابية” في “الإشارة إلى النظرة السعودية للإسلام”.
واعتبر كثيرون أن مؤسس الحركة الوهابية، الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لم يزد على الإسلام أو يضف إليه تعاليم جديدة، بل ساهم في تنقيته بإزالة شوائب شابته رأى فيها ممارسات غير إسلامية.
وهنا نورد ترجمة تقرير نيويورك تايمز:
عضو “هيئة الأمر بالمعروف” دعا لمزيدٍ من الحريات فتلقى تهديداتٍ بالقتل
قضى أحمد قاسم الغامدي معظم حياته شخصاً بالغاً بين المحتسبين الذين يفرضون القوانين، فقد كرس الغامدي حياته الوظيفية في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يخدم في الصفوف الأولى لحماية المملكة من الثقافة الغربية والعلمانية وأي شيءٍ آخر لا يتفق مع تعاليم الإسلام في مجتمع مُحافظ.
تتشابه بعض مهامهم مع مهام أي شرطة اعتيادية، مثل القبض على مروجي المخدرات والمهربين في المملكة التي تحرّم المشروبات الكحولية. لكن رجال الهيئة يقضون أغلب أوقاتهم في الحرص على تطبيق المعايير المُجتمعية المحافظة، التي تجعل من السعودية دولة محافظة حتى بالنسبة للدول الإسلامية المجاورة هذا فضلاً عن الغرب.
وتقول الصحيفة إن الاختلاط يعد أحد الأشياء الشهيرة التي تُعتبر جريمة في السعودية، فبحسب التعاليم الاختلاط غير الشرعي بين الرجال والنساء قد يؤدي إلى الفجور والزنا، ومن ثم إلى تقويض بيوتٍ وانهيارٍ مجتمعي كامل.
قضى الغامدي سنواتٍ من عمره يطبق هذه القوانين، حتى ترقى في سلم الهيئة إلى أن أصبح مسؤولاً عن منطقة مكة المكرمة، أكثر المدن قداسةً لدى المسلمين. بعدها، أصابته شكوكٌ، وبدأ يتساءل عن مدى صحة هذه القوانين. اتجه بحسب ما يقول إلى القرآن والسنة وسير الصحابة باحثاً عن نماذج توضح سلوك المُجتمع المسلم. ما وجده الغامدي كان “صادماً” له وتسبب في تغيير حياته: فالأولون لم يمانعوا اختلاط الرجال بالنساء، الشيء الذي كان موجوداً بين أجيال المسلمين الأوائل دون أي غضاضة.
خرج الغامدي عن صمته، وبدأ يذكر في أحاديثه التلفزيونية ومقالاته نظريته عن أن غالبية ما يمارسه السعوديون على أنه جزءٌ من تعاليم الدين الإسلامي مجرد “عاداتٍ عربية اختلطت مع إيمانهم”.
وبحسب ما يذهب إليه لا يوجد ما يوجّب غلق المتاجر أثناء الصلوات، ولا منع النساء من قيادة السيارات كما هو مطبقٌ في السعودية. ففي عهد الرسول، كانت النساء يركبن فوق الجمال، الأمر الذي قد يكون أكثر استفزازاً، في رأيه، من مشهدٍ لسيدة مُحجبة تقود سيارتها في شوارع المدينة.
كما أنه صرّح بأن المرأة يتوجب عليها ستر جسدها فقط، لكن أمر تغطية الوجه متروكٌ لها لتقرر إذا ما كانت ترغب فيه أم لا. وليثبت مدى اقتناعه بما يقول، اصطحب زوجته، جواهر، معه في أحد اللقاءات التلفزيونية حيث كانت تبتسم إلى الكاميرا دون حجابٍ، بوجهٍ مُزين بالماكياج.
كان ذلك بمثابة إلقاء قنبلةٍ بداخل المؤسسة الدينية السعودية، لأن ذلك تهديدٌ للنظام الاجتماعي الذي يقوم على أن لرجال الدين مكانتهم في تحديد ما هو صحيح وما هو خاطئ في كل نواحي الحياة.
رفض زملاء الغامدي السابقون التحدث إليه. انهمرت على هاتفه المكالمات الساخطة عليه، وبدأ في تلقي تهديداتٍ بالقتل من مجهولين على تويتر. أما رجال الدين ذوو المكانة فقد كرسوا وقتهم للاستنكار منه واصفين إياه بالجاهل حديث العهد بالعلوم الدينية، الذي يستحق العقاب والمُحاكمة وبعضاً من التعذيب.
تحدي الفهم
ويقول مراسل نيويورك تايمز، بن هوبارد، إنه ذهب إلى السعودية كي يستكشف “الوهابية”، وهي التي يتم لومها كثيراً بكونها وقودٌ للتشدد الديني. وقضى عدة أسابيع بين الرياض وجدة وعددٍ من المدن الأخرى، مُتحدثاً إلى شيوخٍ وأئمةٍ وعلماء دين وأشخاصٍ آخرين في محاولةٍ للكشف عن طبقات المجتمع السعودي الخاص.
بالنسبة للزائر الغربي، تُعد المملكة السعودية خليطاً مُربكاً من المدنية الحديثة، وثقافة الصحراء، والجهود اللانهائية للتمسك بتفسيراتٍ بعينها للنصوصٍ المقدسة. فهي المملكة التي تتكدس فيها ثروات النفط، وناطحات السحاب، والسيارات الفارهة، والمراكز التجارية، وهي البلاد التي يقوم فيها استثمار الأموال، أو التفاعل مع المسلمين أو غير المسلمين، أو حتى مُعاملة القطط بحسب تفسير بعينه للتعاليم الدينية.
الدين في السعودية متجذرٌ في الحياة اليومية. فالبنوك تستعين برجال دين كي تتأكد من أنها لا تخالف الشريعة. وتوضع “مانيكانات” عرض الأزياء دون رؤوسٍ بسبب الحساسية الدينية تجاه تصوير البشر. وتحتوي كتب الدراسة على موضوعاتٍ تتعلق بالطريقة التي يجب أن يحلق بها الأولاد شعر رأسهم، أو كيف تغطي الفتاة جسدها.
خرجت تعاليم الإسلام للنور لكي تشكل نظاماً كاملاً لحياة البشر، وطريقة تفسير هذه التعاليم أمرٌ في غاية الأهمية عند تطبيقها. ينحدر التفسير السعودي لتعاليم الإسلام إلى وسط الجزيرة العربية، تحديداً فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة.
ترتدي أغلب نساء السعودية في الأماكن العامة العبايات السوداء الفضفاضة لستر أجسادهن، بالإضافة إلى النقاب الذي لا يظهر سوى شريطٍ صغير أمام العينين. تفصل مطاعم المملكة بين قسمي “العائلات”، وقسم “العُزّاب” من الرجال.
يختلط العديد من الرجال والنساء السعوديون في الأماكن الخاصة، وبإمكانهم أن يتعاملوا مع بعضهم البعض في أماكن مثل بهو الفنادق دون أية مشاكل. بينما لا يفضل آخرون الاختلاط، مُعتبرين أن الفصل بين الجنسين جزءٌ لا يتجزء من هويتهم الثقافية. حتى أن بعض الرجال في الدوائر المُحافظة، يقضون حياتهم بأكملها دون أن يروا وجه أي امرأةٍ لا تنتمي إلى أسرهم المُباشرة، ولا حتى وجوه زوجات إخوانهم.
في المملكة لا توجد أماكن عبادة للديانات الأخرى، حتى سلسلة مطاعم “دجاج الكنيسة” تم تغيير اسمها إلى “دجاج تكساس” حين فتحت فروعها في السعودية، وينكر السعوديون أن يكون لذلك أي علاقة بالتعصب، فهم يقرنون بين دولتهم وبين الفاتيكان، معتبرين أن بلدهم مكانٌ خاص للمسلمين، وله قوانينه الخاصة.
ويشعر المسؤولون بالسخط بسبب ما تواجهه المملكة من انتقادات متزايدة، وبسبب سمعتها التي تُعاني بالخارج. وظلوا يؤكدون على تبني السعودية لـ “الإسلام الوسطي”.
وبسبب المخاوف أن تصيب المملكة نيران الجهاديين المتأججة في المنطقة، تحث السلطات المؤسسة الدينية لإدانة الجهاديين، والتأكيد على وجوب طاعة ولي الأمر.
وعلى الرغم من وجوده في السابق، إلا أن خطاب الكراهية الموجه ضد المسيحيين واليهود لم يعد منتشراً، على عكس الهجوم الضاري على إيران الشيعية كجزءٍ من مواجهة المملكة لطهران.
ويقول مراسل نيويورك تايمز، إن الأشخاص السعوديين الذين وصموه بالكُفر كانوا أطفالاً.
حدث ذلك عندما قدّم له أحد الصحفيين السعوديين ابنته ذات التسعة أعوامٍ بفخر، والتي تدرس في مدرسةٍ خاصة كي تستطيع دراسة اللغة الإنكليزية.
فسألها: “ما اسمك؟”
أجابت: “اسمي دانا”
“كم عمرك؟”
“تسع سنوات”
“متي يحل عيد ميلادك؟”
ارتبكت الفتاة وبدأت في التحدث بالعربية.
قالت له: “لا نحتفل بهذا في السعودية”، وأضافت: “هذه مناسبةٌ كافرة”.
مصدوماً، سألها والدها عمن علمها ذلك. فجلبت له أحد الكتب المدرسية، وفتحته على درسٍ يعدد “أعياد الميلاد المُحرمة”. كان من بينها عيدا الميلاد (الكريسماس) والشُكر، بالإضافة إلى أعياد ميلاد الأشخاص.
في مرة أخرى، يقول المراسل إنه قابل أحد الأصدقاء المتدينين لاحتساء القهوة، وجلب معه ابنيه الصغيرين. عندما ارتفع الأذان ذهب السعودي ليصلي، بينما ارتبك ابناه من عدم ذهابه معه، وسألاه وعيناهما مفتوحتان من الدهشة: “هل أنت كافر؟”
ما الوهابية؟
أول ما يقوله السعوديون عن الوهابية هي أنها غير موجودة.
“لا يوجد ما يُسمى بالوهابية”، قال هشام الشيخ “لا يوجد سوى الإسلام الصحيح”.
الأمر المثير هو أن قلةً من الناس لديهم النسب النقي الذي يصل هشام الشيخ بالرجل الذي أسس للوهابية، وهو يعد جده المباشر.
في بدايات القرن الثامن عشر، دعا الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى إصلاحٍ ديني في وسط الجزيرة العربية. فقد شعر بأن تعاليم الإسلام قد شابتها مُمارسات فاسدة، مثل تبجيل الأئمة والأضرحة، فدعا إلى التخلص من “البدع” والعودة إلى ما اعتبره الدين القويم.
تحالف عبدالوهاب مع شيخٍ يُدعى محمد بن سعود، ذلك التحالف الذي مد جذوره راسخاً في المنطقة منذ حينها. فمن بعدها، تولى آل سعود القيادة السياسية، بينما انبرى عبدالوهاب وذريته لتولي الشؤون الدينية.
أثبت هذا الخليط فعاليته بين القبائل العربية المتناحرة آنذاك، فقد منح رجال الدين الغطاء حينه للعمليات العسكرية في بعض الأوقات؛ فمن قاوم ولاة الأمر ليسوا محض أعداء، بل كفاراً يستحقون القتال بالسيف.
تم تدمير الدولة السعودية الأولى على يد الإمبراطورية العثمانية عام 1818، وفشلت محاولات بناء دولة جديدة حتى بدايات القرن العشرين، حينما تولى الملك عبدالعزيز آل سعود حملةً مكنته من السيطرة على معظم مناطق شبه الجزيرة العربية.
لكن الملك كان عليه الاختيار بين استكمال الجهاد والتوسع، مما كان سيضعه في صراعٍ مع البريطانيين، وبين التوقف لبناء دولةٍ حديثة. فضّل الملك الخيار الثاني، ولم يتوانَ عن سحق محاربيه الذين رفضوا التوقف عن القتال.
ومن وقتها، والتحالف القائم بين ولاة الأمر ورجال الدين قد صمد على الرغم من الخلافات المستمرة داخل المجتمع السعودي بشأن المطالب المنادية بالتمسك بالفكر المُحافظ، والمنادين بضرورة تحديث الدولة.
بالسفر عبر الزمن إلى 2016، ستجد أن اللاعبين الرئيسيين قد تغيروا بفعل ثروة النفط ومرور الوقت. فقد تحول الحكام من قاطني الصحراء، إلى عائلةٍ كبيرة داخل القصور وتملك طائراتها الخاصة. بينما تطورت المؤسسة “الوهابية” من مرحلة الإصلاح الديني، وأصبحت بيروقراطية حكومية متضخمة.
تتكون الآن من جامعات تخرج خريجين درسوا العلوم الدينية، ومن نظامٍ قانوني ستند قضاته على الشريعة الإسلامية، ومجلسٍ من كبار رجال الدين لمشورة الملك، وشبكةٍ من المكاتب التي تختص بإصدار الفتاوى والمشورات الدينية، وهيئة الأمر بالمعروف للرقابة على الأخلاق العامة، وعشرات الآلاف من الأئمة الذين يبثون رسائل السلطات من فوق منبر المساجد.
لقاء حفيد محمد بن عبد الوهاب
يقول المراسل: قابلت هشام الشيخ بعد صلاة المغرب، رجلٌ فخور من الجيل السادس من سلالة محمد بن عبدالوهاب.
كان رجلاً مهيباً في الثانية والأربعين من عمره، يرتدي جلباباً طويلاً أبيض اللون، ويغطي رأسه بالشماغ. يطلق لحيته ويحف شاربه على سنة الرسول (ص)، وينظر عبر نظاراته الطبية، أو يحدق من خلالها في شاشة هاتفه من نوع “آي فون”.
ويضيف: جلسنا على أرائك قرمزية في القاعة التي لا يُذاع فيها موسيقى بفندق الرياض، وتناولنا تمراً وشربنا قهوة بينما يجيب هشام على أسئلتي عن الإسلام في المملكة السعودية.
أخبرني في بداية الحديث: “أنا شخصٌ متفتح”
لقد كان من الواضح أنه يتمنى لو أنني تحولت إلى الإسلام بعد حديثنا.
على الرغم من أن حياته قد حُددت وفقاً للمؤسسة الدينية، لكنه ظل دليلاً على تعقيد مصطلحاتٍ مثل “الحداثة” و”الموروث” في السعودية. فقد أتم حفظ القرآن في صباه ودرس على يد رجال الدين، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه في علوم الشريعة، ببحثٍ عن الكيفية التي غيرت بها التكنولوجيا من تطبيق الشريعة.
وهو الآن ينعم بنجاحٍ وظيفي من خلال عدة مناصب دينية. فهو يدرب قضاة المحاكم الشرعية، ويعمل مستشاراً لوزير الشئون الإسلامية، ويزود مستشاري الملك من رجال الدين بالدراسات الدينية، ولديه عضوية في مجلس شريعة شركة المتوسط والخليج للتأمين (ميدغلف)، وفي أيام الجُمعة، يخطب في مسجدٍ قريبٍ من بيت والدته، ويرحب بزائري عمه مفتي السعودية الأكبر.
يسافر بكثرةٍ إلى الخارج، وعندما عرف أن صحفي نيويورك تايمز أميركيّ، أبلغه بأنه قد أحب الولايات المتحدة. فقد زار أوريغون، ونيويورك، وماساتشوستس، ولوس آنجلوس. زار معبداً يهودياً في إحدى المرات، وكنيسةً للسود في مرة أخرى. حتى أنه قد زار طائفة الآميش ووجد أنهم جذابون.
يعيش أحد أقاربه بمونتغمري بآلاباما، وقد قضى في ضيافته أشهراً سعيدة، كان يزور فيها المركز الإسلامي المحلي. لكن أصعب ما واجهه هنالك كان رمضان، فلم تكن هنالك مطاعم تقدم الطعام لوقتٍ متأخر وتمتنع عن تقديم الخمور.
“لم يكن لدي خيارات سوى IHOP (مطعمٌ لتقديم بان كيك)”،
قال هشام الشيخ أن الإسلام لا يحرم التجارة أو عقد الصداقات مع المسيحيين أو اليهود. وعلى الرغم من أنه يعارض المعتقدات والممارسات الشيعية، إلا أنه يرى أنه كان من الخطأ التصرف مثلما فعل متطرفو الدولة الإسلامية، بتكفير جماعات بأكملها.
وبخصوص موضوع أعياد الميلاد التي يستنكر العديد من رجال الدين السعودي الاحتفال بها، قال إنه لا يعارضها، لكن زوجته لا توافق عليها، وتمنع أولادهما من المشاركة في حفلات أعياد ميلاد الآخرين، لكنهم يحصلون على احتفالاتٍ خاصة بأعياد ميلادهم. وأظهر فيديو لعائلته وهي مجتمعة حول كعكةٍ تحمل صورة ابنه عبدالله ذا الخمسة عشر ربيعاً، والذي أتم لتوه حفظ القرآن. أشعلوا له ألعاباً نارية وابتهجوا لكنهم لم يغنوا.
كان غير محددٍ بخصوص الموسيقى، التي يحرّمها العديد من رجال الدين. قال إنه لا يمانع الموسيقى التي تدوي في المطاعم ليستمع لها روادها، لكنه لا يقبل بالموسيقى التي تنتهي بالمستمعين إليها إلى حالةٍ تشبه حالة السُكر، فيتقافزون في الأنحاء وهم يهزون رؤوسهم.
“لدينا ما هو أفضل من ذلك”، ويستكمل: “بإمكانك أن تستمع إلى القرآن”.
ولأن مكانة المرأة جزءٌ من خصوصية المجتمع السعودي، فإن أتحدث إلى امرأة سعودية محافظة يعد أمراً شائكة، نظراً لأن أغلبهن سيرفضن مقابلة رجل لا صلة لهن به، فضلاً عن لقاء رجلٍ غير مسلم، ويعمل كمراسلٍ لصحيفة أميركية. لذا، طلب مراسل نيويورك تايمز من زميلة سعودية، شيخة الدوسري، أن تتواصل مع زوجة هشام الشيخ، السيدة مشاعل، التي وافقت على اللقاء.
وكان رد هشام الشيخ لدى طلب موافقته على اللقاء بأن زوجته “مشغولة للغاية.” وغيّر بعدها موضوع الحديث.
لذا، قابَلت شيخة الدوسري الزوجة مشاعل في مقهى للسيدات بالرياض، حيث يمكن لهن أن الكشف عن أوجههن وشعرهن.
أخبرتها هنالك بأن زواجها من هشام كان قد تم ترتيبه. فقد التقيا لمرة واحدة قبل زواجهما لأقل من ساعة، رأى فيها وجهها.
تقول: “لقد كان من الصعب عليّ أن أنظر إلى وجهه أو أن أتفحص شكله فقد كنت أشعر بالخجل”.
كانا ابنا عمٍ، كان هو في الحادية والعشرين من عمره، بينما كانت هي في السادسة عشر. كان شرطها لاتمام الزواج هو أن يسمح لها بأن تواصل تعليمها، وهو ما وافق عليه. وهي الآن تعمل على أطروحتها لنيل الدكتوراه في التعليم، بينما تُربي أبناءهما الأربعة.
تختلف السيدة الشيخ مع نظرة الغرب للمرأة السعودية على أنها مهضومة الحق.
“يعتقدون أننا نتعرض للاضطهاد لأننا لا يُسمح لنا بقيادة السيارات، وهي نظرة خاطئة.” تقول ذلك ثم تؤكد عليه بأن القيادة ستكون أشبه بمشاجرةٍ في شوارع الرياض المزدحمة.
وتواصل: “تنال المرأة هنا الاحترام والتكريم بطرقٍ عديدة لا تعرفونها في الغرب”.
هي الأخرى تنتمي لنسل محمد بن عبدالوهاب، وقالت بفخرٍ أن جدها قد أسس هيئة الأمر بالمعروف. وواصلت: “الحمدلله أن لدينا الهيئة لتحمي بلدنا.”
الفتاوى المُضطربة
أدت أولوية الإسلام في حياة السعوديين إلى ما يمكن تسميته بـ”فقاعةٍ دينيةٍ” ضخمة، تمتد إلى ما هو أكثر من رجال الدين الرسميين. فحياة العامة صارت تعج بالدعاة المشاهير، تخطف حركاتهم وتعليقاتهم وخلافاتهم اهتمام السعوديين، مثل اهتمام الأميركيين بهوليود. هنالك دعاة كبار ودعاة صغار، وشيوخ كانوا متشددين وأصبحوا الآن يدعون إلى التسامح، وشيوخ تزوجوا زيجات أثارت الجدل، وشيخٌ أسود البشرة يقارن نفسه بباراك أوباما.
في مملكةٍ فيها عددٌ ضخمٌ من مستخدمي التكنولوجيا، يتنافس الناس على جذب أكبر عددٍ من المتابعين على تويتر وفيسبوك وسناب شات، حتى أن المفتي الأكبر، أعلى مسؤولٌ ديني في المملكة، يقدم برنامجاً تلفزيونياً بشكلٍ منتظم.
يسير المجتمع باحتضانه للتكنولوجيا بهذا الشكل على عكس الاعتقاد برفض كل ما هو جديد باعتباره تهديداً للدين. فقد سبق تحريم أشياءٍ مثل: التيليغراف، الراديو، الكاميرا، كرة القدم، تعليم الفتيات، والتلفاز الذي أدى ظهوره للنور في الستينات إلى سخط شديد حينها.
أصبح التفريق بين ما هو حلال وما هو حرام، تحدياً كبيراً بالنسبة للسعوديين، لذا هم يلجأون إلى رجال الدين لكي يحصلوا منهم على فتاوى أو استشاراتٍ دينية. يجذب بعض رجال الدين الأنظار بفتاواهم، لكن غالبيتهم يهتم بإصدار فتاوى تتعلق بالعبادات. من حينٍ لآخر، يصدر بعض رجال الدين فتاوى هزلية نتيجة محاولتهم للتوفيق بين الحداثة وفهمهم الشخصي للدين.
فقد دعا أحدهم بهلاك ميكي ماوس، قبل أن يحاول التراجع عما فعل. وأصدر أحد رجال الدين البارزين توضيحاً كي يؤكد على أنه لم يقم بتحريم “البوفيه المفتوح”، وقد أجاب نفس الشيخ على سؤالٍ عن جواز التقاط الناس صوراً لأنفسهم بجوار القطط، بحديثٍ لم يعترض فيه على وجود القطط، إنما كانت المشكلة من وجهة نظره هي التصوير في حد ذاته.
“التصوير مُحرمٌ إلا في حالات الضرورة”، أعلن ذلك ثم أضاف: “لا تصوير مع القطط، ولا الكلاب، ولا الدببة، ولا أي شيء”.
حاولت الحكومة التحكم في سيل الفتاوى عن طريق هيئة الفتاوى الرسمية، لكن هذه المؤسسة لم تسلم من السخرية بعد أن وافقت على إصدار فتاوى مماثلة، مثل الفتوى التي ترى في إنفاق الأموال على منتجات بوكيمون “معاونةً على المعصية”.
وبينما تسعى الحكومة إلى جذب مزيدٍ من النساء إلى القوى العاملة، أصدرت مؤسسة الفتاوى رأيها بخصوص: “مخاطر اختلاط الرجال بالنساء في أماكن العمل”، وهو ما سمته: “السبب الرئيسي وراء تدمير المجتمعات”.
وهنالك فتاوٍ أخرى تسلح أولئك المتشددين بمنحهم الدافع الديني. فواحدة منها، ما زالت متاحة على النسخة الإنكليزية من موقع الحكومة موقعةٌ من الُمفتي الأكبر السابق، تقول: “من يحد عن الطريق القويم، يستحق أن يُقتل أو يؤسر لإرساء العدل في الأرض، ولحفظ الأمن والسلام، ولحماية الأرواح والممتلكات والعرض”.
وتستمر الفتوى قائلة: “إن العبودية في الإسلام مثلها مثل آلة للتنقية، أو مثل -ساونا- يدخل إليها الأسرى للتخلص من قذاراتهم، ثم يخرجون من الباب الآخر وهم أنقياء، مُطهرون، وآمنون”.
وأثناء احتساء القهوة مع هشام الشيخ على هاتفه، رد على هاتفه واستمع بجديةٍ للمتصل، ثم أفتاه بشيءٍ ما. يتلقى هشام مكالمات كهذه بشكلٍ مستمر.
كانت الفتوى عن المكان الذي يجب أن يبدل فيه الحاج إلى مكة ملابسه ليضع زي الإحرام، وهي فتوى سهلة كانت إجابتها: “جدة”. لكنه تلقى أسئلة أكثر صعوبة، كان يتردد إذا لم يكن يعرف الإجابة. سألته إحدى السيدات عن جواز استخدام رموشٍ صناعية. أخبرها أول الأمر أنه لا يعرف الإجابة، ثم فكر قليلاً قبل أن يخبرها أنه يرى أنه لا بأس بها بشرطٍ واحد، ألا يتضمن استخدامها خداع أحدٍ ما.
فقد تضعهما امرأة قبل أن يراها الرجل الذي يتقدم لخطبتها. “ويكتشف بعد زواجه بها أن هذه الرموش قد اختفت هذا أمر غير مقبول”.
في أحد أيام الجُمعة، أخذ هشام مرسال نيويورك تايمز لرؤية عمه، المفتي الأكبر عبد العزيز الشيخ.
دخلا إلى صالة شديدة الاتساع بجوار منزل المفتي في الرياض، بها العديد من الأرائك المُبطنة على طول الحائط حيث يجلس طلبة المفتي. وعلى كرسيٍ عالٍ ذو مسند، يجلس المفتي، يرتدي جوارب بنية ويثبت قدميه فوق وسادة. يقرأ الطلبة النصوص الدينية، ويتدخل المفتي مقاطعاً بالتعليق.
كان في الخامسة والسبعين من عمره، وأصيب بالعمى منذ أن كان في الرابعة عشر بعد أن فشلت عملية جراحية في عينيه، كان يجريها له طبيبٌ ألماني.
وعندما سأله المراسل عما يمكن أن يرد به على الذين يقارنون الوهابية بتنظيم “الدولة الإسلامية”.
رد مُستخدماً الاسم الآخر للدولة الإسلامية: “كل هذه أكاذيب وافتراءات، فما داعش إلا مجموعة من المستبدين القساة الذين ليس لهم أية علاقة بالوهابية”.
سكتَ قليلاً ثم سأل: “لم لا تدخل الإسلام؟”
أجاب المراسل بأنه مولودٌ لعائلة مسيحية.
“دينك لا يستند على حجة” أخبرني بذلك ثم أضاف أنه يجب علي أن أؤمن بوحي النبي محمد (ص).
وقال: “دينك ليس بدين حقيقي، ستُسأل عن ذلك أمام الله في النهاية”.
“المُصلح” غير المتوقع
أحمد قاسم الغامدي، عضو الهيئة السابق ذو الواحد وخمسين عاماً، قابله مراسل صحيفة نيويورك تايمز لأول مرة في شقته بغرفة الجلوس في جدة، تلك المدينة الساحلية المطلة على البحر الأحمر. كانت الغرفة مصممة لتبدو كخيمة بدوية. كان القماش الأحمر يزين الحوائط، والشرّابات الذهبية تتدلى من السقف، والسجاد الذي كان يصلي عليه الغامدي يغطي الأرض.
تحدث عن تأثير عالم الشيوخ والفتاوى وتطبيق الدين في جميع مناحى حياته.
ولكن حياته كانت قد وصلت إلى طريق مسدود.
من المستغرب أن يصبح الغامدي “مصلحاً” دينياً، فقد ترك وظيفة يعمل بها أثناء دراسته الجامعية في مكتب الجمارك في ميناء جدة لأن شيخاً أخبره أن تحصيل الرسوم الجمركية حرام.
درس الدين في وقت فراغه، وعمل في مكتب حكومي في إدارة حسابات دولية، وتطلب عمله السفر لدول غير إسلامية.
يقول الغامدي “أصدر الشيوخ في ذلك الوقت فتوى تحرم السفر إلى بلاد الكفار إلا لضرورة”. فما كان منه إلا أن ترك الوظيفة.
بعد ذلك، قام بتدريس الاقتصاد في مدرسة فنية في السعودية، ولكنه كره أن يدرس الرأسمالية والاشتراكية فقط، فأضاف مادة عن الاقتصاد الإسلامي، ولكن الطلاب شكوا من زيادة العبء الدراسي، فترك العمل.
وأخيراً وجد وظيفة شعر أنها تتناسب مع قناعاته الدينية، كعضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جدة.
في السنوات التالية، انتقل إلى مكة وتنقل بين الوظائف المختلفة. كان هنالك بعض القضايا التي تعامل فيها مع بغايا وسحرة، سيواجه هؤلاء حكماً بقطع الرأس إذا ما تمت إدانتهم في المحكمة.
ولكن كان له تحفظات حول أسلوب عمل الهيئة. كانت حماسة زملائه الدينية الزائدة تؤدي بهم أحياناً إلى اقتحام بيوت الناس أو إهانة المحتجزين.
يقول الغامدي: “إذا شرب أحدهم الخمر، فهذا لا يعتبر هجوماً على الدين، ولكنهم كانوا يبالغون أحياناً في معاملة الناس”.
في إحدى المرات، كان عليه أن يراجع بعض القضايا، فحاول أن يستخدم موقعه ليبلغ عن المخالفات ويجبر المطوعين على إعادة بعض الأشياء التي صادروها دون وجه حق.
ذكر قضية أبلغ الجيران فيها عن رجل أعزب كان يستقبل فتاتين شابتين في منزله في أثناء عطلات نهاية الأسبوع. بما أن الرجل لم يكن يصلي في المسجد، ظن جيرانه أنه سيئ السلوك، فهاجمت الهيئة منزله وقبضت عليه متلبساً – بزيارة ابنتيه له.
يقول الغامدي “كان البعض يهين الناس بطريقة غير آدمية، فتسببوا بذلك في كراهيتهم للدين”.
في عام 2005، توفي رئيس الهيئة في مكة، فحصل الغامدي على ترقية إلى المنصب الكبير الشاغر، تشمل مكة 90 مقراً في منطقة تعتبر أقدس بقاع الأرض بالنسبة للمسلمين. قام بما في وسعه لمواصلة عمله في الوقت الذي كان يرى فيه أن توجهات الهيئة لم تكن دائماً على صواب.
قام بقراءة القرآن وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليقف على الحلال والحرام، ودوّن ملاحظاته.
يقول الغامدي: “ما أدهشني أن علماءنا كانوا يرددون “حرام حرام حرام” دون أن يحدثوننا عن الدليل”.
ولمعرفته بخطورة ما وجده في أثناء البحث بالنسبة لشخص في منصبه، آثر الصمت وخبأ الأوراق.
لكن نتائج البحث كانت على وشك الخروج للعلن.
في تلك الأثناء، قرر الملك عبد الله إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا. ما صدم المؤسسة الدينية هو قراره بعدم الفصل بين الطلبة والطالبات في الجامعة، أو فرض زي خاص على النساء فيها.
كانت شركة النفط السعودية، أرامكو، قد سبقت الجامعة في ذلك، فقد كانت محصنة ضد تدخل المشايخ، مما يظهر التناقض، فمهما تم الإعلاء من القيم الدينية، حين يتعلق الأمر بجنى الأرباح، لا يستشار الشيوخ في الأمر، بل يتم إقصاؤهم تماماً.
سكت معظم المشايخ احتراماً للملك. ولكن أحد رجال الهيئة تحدث عن الموضوع محذراً من مخاطر الاختلاط في الجامعة، مثل التحرش وإلهاء الطلبة عن الدراسة، وزيادة الغيرة بين الأزواج، والاغتصاب.
قال الشيخ سعد الشاطري: “الاختلاط به العديد من عوامل الفساد، وشرّه عظيم. ولو كان الملك على علم بهذا الأمر لمنعه.”
ولكن في الحقيقة، كان الاختلاط اقتراح الملك نفسه، ولم يعجبه حديث الشاطري، فأصدر مرسوماً ملكياً بإعفائه من منصبه.
كان الغامدي يراقب المشهد من مكتبه في مكة، وأحزنه أن الشيوخ لا يدعمون مشروعاً يفيد المملكة.
فبعد أن استخار الله، أخرج تقريره وصاغ منه مقالين طويلين نشرتهما صحيفة عكاظ عام 2009.
كانت تلك أول ضربة في معركة الغامدي مع المؤسسة الدينية. تبع ذلك مقالات أخرى ومقابلات تلفزيونية ناظر فيها شيوخاً أحضروا له أدلة مضادة من كتب الدين، كما نبذه زملاؤه في الهيئة، فطلب الحصول على تقاعد مبكر، وتمت الموافقة على طلبه بسرعة.
بعد أن ترك الهيئة، بدأ يتساءل عن الممارسات الأخرى، مثل إجبار الباعة على إغلاق المتاجر في وقت الصلاة، وحث الناس على الذهاب للمساجد، ومنع النساء من قيادة السيارات وإجبارهن على ارتداء النقاب.
كل تعليق كان يجر عليه انتقادات جديدة. سألته امرأة على تويتر إذا ما كان يحق لها استخدام مساحيق التجميل وهي كاشفة عن وجهها، فأجاز لها ذلك مثيراً بذلك عاصفة أخرى من الانتقادات.
في عام 2014، ظهر مع زوجته في أحد برامج الحوار الشهيرة، ولم تكن زوجته ترتدي النقاب، وقالت إنها تؤيده، فهاجمه العديد من كبار الشيوخ.
قام الكثيرون بالتقليل من شأنه، قائلين بأنه ليس عالماً بالدين، كما قالوا بأنه ليس مؤهلاً للإفتاء ولا يحمل شهادة علمية، فقد حصل على الدكتوراه من Ambassador University Corporation التي تعطي الشهادات بناء على الخبرة العملية.
قال الشيخ صالح اللحيدان بحسب الصحيفة “لا شك أن هذا الرجل فاسد. على الدولة أن تصدر أمراً بالقبض عليه وتعذيبه”.
كما علق مفتي المملكة على ظهوره في البرنامج مع زوجته بأن “النقاب واجب إسلامي” ودعا قنوات التلفزيون السعودية إلى منع عرض المواد التي “تفسد الدين وأخلاق المجتمع وقيمه”.
إذا كانت هجمات رجال الدين على الغامدي قاسية، فقد كان رد فعل ذويه أكثر إيلاما. فقد أصدرت قبيلته بيانا للتبرؤ منه ووصفه بانه “مضطرب”. كان هاتفه المحمول يرن ليلا ونهارا من متصلين يصرخون في وجهه. عاد إلى بيته ليجد كتابات على جدار منزله، وجاءت مجموعة من الرجال إلى عتبة داره، مطالبين بـ”الاختلاط” مع نساء عائلته، فقام أبناؤه التسعة باستدعاء الشرطة.
قبل العاصفة، كان الغامدي يلقى خطبة الجمعة في مسجد في مكة المكرمة، ويحصل على راتب من الحكومة. لكن الجماعة شكت بعد أن جهر بآرائه، وطالبوه بالبقاء في المنزل، ففقد راتبه.
لم يخالف الغامدي أي قوانين ولم توجه له أية تهم. لكن في مجتمع مترابط كالمملكة العربية السعودية، اتت الهجمات من خلال عائلته. قامت عائلة خطيبة ابنه الأكبر بإلغاء زفافهما، وأعلنوا عن عدم رغبتهم في نسب أسرتهم بأسرته.
سأل زوج شقيقة الغامدي لزوجته “هل أنت مع أخيك أم معي؟” فردت “أنا مع أخي”. وسرعان ما طُلقت.
كما سخر زملاء عمار، نجل الغامدي، منه في المدرسة. سأله أحد الطلبة، “كيف تظهر أمك على شاشة التلفزيون؟ هذا غير صحيح. أنتم بلا أخلاق “. فلكمه عمار.
احرص لدى الإفصاح عن رأيك
أحد أساتذة الجامعة دعا مراسل صحيفة نيويورك تايمز إلى الغداء في جدة. كانت زوجته، الطبيبة، تجلس معهم على المائدة، وقد غطت شعرها بخمار أنيق.
كانا قد تزوجا حديثاً، ذكر مازحاً، أنه وزوجته قد خلقا لبعضهما، لأنها ماهرة في الطبخ، وهو ماهر في الأكل. فضحكت زوجته وصبت له مزيداً من الحساء.
وعن سؤاله عن الغامدي، قال “أعتقد أنه على صواب، فهو يدافع عن ما يؤمن به، يعجبني ذلك”.
ولكن المشكلة، في رأيه، أن تقبل الرأي الآخر ليس معروفاً في المجتمع السعودي.
يقول الأستاذ الجامعي، “إما تفعل ما أقوله لك أو أصنفك، أو أؤذيك، حتى تتراجع. هذا ليس من الإسلام. هناك العديد من الآراء، وقد نختلف، لكننا نحيا تحت نفس السقف”.
أما زوجته، فلا تعترض على الاختلاط أو عمل المرأة، ولكنها لم توافق على الفضيحة التي سببها الغامدي بإعلانه عن آرائه. فهي ترى أن العائلة المالكة تضع القواعد، وعلى الرعايا عدم الإعلان عن حملاتٍ للتغيير.
تقول “عليه أن يتبع الحاكم. إذا جهر كل واحد برأيه سنصبح في فوضى”.
بعد الغداء، جاء أحد الشيوخ صغار السن، وقال إنه يتفق مع آراء الغامدي، ولكنه لا يعلن ذلك على الملأ. فالرد سيكون من صميم المؤسسات الدينية التي ترفض الإصلاح.
كان يقوم بإلقاء المحاضرات لضباط الأمن، وتلي المحاضرات مناقشات، وقد سُئل عدة مرات عما إذا كان ارتداء الزي العسكري حراماً. يفتي العديد من الشيوخ بعدم جواز التشبه بالكفار.
لقد كان يرى أن ارتداء الزي ليس حراماً، وكان قلقاً بشأن تلك الطريقة في التفكير التي قد تؤدي إلى التطرف.
وأضاف “إن الأمر أشبه بالأفلام الأميركية، حيث يخترع العالم إنساناً آلياً ثم يفقد السيطرة عليه، فيهاجمه”.
في اليوم التالي، شكر الأستاذ الجامعي مراسل الصحيفة على الزيارة في رسالة نصية.
“أود أن أذكرك بأن أي كشفٍ عن مصادرك سيؤذينا. أثق تماماً في حكمك”، وأرسل بجوار النص ثلاث زهراتٍ.
ولدى محاولة التحدث مع أحد ممثلي الهيئة، للتعرف على آراء قادتها وأعضائها في هذا الموضوع، بدو -بحسب المراسل- على عكس المُتوقع من سمعتهم كانوا أكثر خجلاً من أن يتحدثوا معه. فقد رفض بعض العاملين في الهيئة التحدث. كما أن المتحدث باسم الهيئة قال إنه مسافرٌ، ثم توقف عن الرد على مكالمات المراسل.
يقول مراسل نيويورك تايمز: ذهبت إلى المقر الرئيسي للهيئة، مبنى على شكل صندوقٍ من الحديد والزجاج على طريق الرياض السريع، كُتب على موقعهم الإليكتروني أن رئيس الهيئة يُخصص ساعاتٍ لمقابلة الناس، فذهبت من أجل ذلك. كان المكان يعج بالرجال، واللافتات التي تعلن “سياسةٌ من أجل التميز” و”معاً لمحاربة الفساد”.
ويضيف: قال لي مساعده: “لم يأتِ اليوم، ربما تستطيع مقابلته الأسبوع المقبل”.
ثم دعاه رجلان لزيارة مكتبهما وقدما له القهوة.
وعندما سأل “أتحبان العمل في الهيئة؟”.
قال أحدهما “كل من يختار هذا العمل يحبه، فهو عملٌ من أجل صالح الأمة الإسلامية بأسرها. من الرائع أن يخرج المرء الناس من الظلمات إلى النور”.
وقال الآخر، الذي كان يعمل لدى الهيئة منذ 15 عاماً، أنه يفضل العمل في المكتب على العمل الميداني. وأضاف، “العمل في المكتب مريح بشكلٍ أكثر. فنحن نواجه مشكلات مع الناس، لا يمكن أن نرتاح في العمل الميداني”.
ظهر رجل عبوس عند الباب، وقال له إنه لا يحق له التحدث مع أحد، فقام الرجل الأول وغادر المكان، أما الثاني، فقدم لي المزيد من القهوة، ثم الشاي، ثم أصر على أن يعطيني زجاجة مياه قبل أن يرحل.
الطريق الأصعب
وبحسب الصحيفة فإن المُفارقة الأولى في حالة غامدي “هي أن الكثير من الشعب السعودي، بما في ذلك أمراء وحتى رجال الدين البارزين، يوافقونه الرأي ولكن بطريقة سرّية، لا يعلنوها صراحةً”. أما بخصوص الاختلاط في بعض الأماكن مثل المستشفيات، والمؤتمرات، وفي موسم الحج في مكة – فهو أمر دارِجٌ ومُنتَشِر. ولكن على الناحية الأخرى، بعض المدن السعودية ليس مألوفاً فيها رؤية وجوه النِساء، أو حتى شعرهن.
وهناك انقسام في صفوف المجتمع، ما بين المحافظين الذين يريدون الإبقاء على ما يعتبرونه الهوية الإسلامية الأصيلة للمملكة، وبين الليبراليين (في سياق البيئة السعودية) الذين يطالبون بالمزيد من الحريات الشخصية. ويحدث طوال الوقت أن يخرج من بين الليبراليين حالات مُماثلة لحالة غامدي. ولكن لا يقوم أي من الشيوخ بذلك، ولِهذا السبب تم اعتبار الغامدي “خائناً”.
أما عن المُفارقة الثانية هذا العام بخصوص هذا الأمر، فإن السعودية قد وضعت بعض التصورات والأساسات للإصلاحات التي نادى بها الغامدي.
لقد كان عاماً شاقاً لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. انتشر فيديو لفتاة تصيح بعد أن أُلقيت على الأرض خارج مول الرياض أثناء مواجهة لها مع الهيئة، فتطايرت عباءتها كاشفة عن ساقيها وجذعها. وبالنسبة للكثير من السعوديين، ترمز “فتاة مركز النخيل التجاري” إلى التجاوزات التي قامت بها الهيئة.
وأمرت الهيئة بعد ذلك بالقبض على علي العُلياني، وهو مضيف برنامج حواري مشهور ينتقد الشخصيات الدينية. انتشرت صور للعُلياني على الإنترنت، يظهر فيها وجود الأغلال حول يديه مع حَمْلِه لزجاجات من الخمر. ولكن بالنسبة للبعض الأمر كان “واضحاً بأن تلك الصور مُلَفَّقة ومُسَرَّبة عن قصد ليتم التشهير بشخصيته”. وتسبب ذلك في إثارة الغضب الشديد لدى العديد من الأشخاص.
في شهر أبريل/نيسان الماضي، ردت الحكومة بمرسوم مُفاجئ لتقليص صلاحيات الهيئة. فمنعت عنهم الحكومة صلاحيات التوقيف والإحتجاز، وكذلك السؤال عن القضايا ومُتابعتها، وأجبرتهم على العمل مع الشرطة، ونصحتهم بأن يتحلوا بالـ”باللُطف والرِفق” في تفاعُلاتهم مع المواطنين.
عبر الغامدي عن استحسانه للقرار، على الرغم من أنه لا يزال منبوذاً، ومعروفاً بكونه الشيخ الذي تسببت آراءه في جعله غير صالِحاً للعمل في المملكة.
ويبقى هذه الأيام بعيداً عن الأضواء، لأنه ينال نصيباً من العبارات المهينة كلما ظهر في الأماكن العامة بين الناس. ليست لديه وظيفة حالياً، ولكنه ينشر آراءه في الأعمدة الثابته للصُحُف، ومعظمها في الخارج.
ومع نهاية الحديث الأخير معه، دخلت زوجته جواهر وهي ترتدي عباءة سوداء، وتكشف عن وجهها. صافحت باليد، ورائحة العطر تفوح منها، ثم جلست بجانب زوجها.
قالت إن هذه التجربة غيرت حياتها بشكل غير متوقع. ولا تندم على أي شيء، تماماً مثل زوجها.
وقالت “لقد نجحنا في إيصال رسالتنا، ولم يَكُن الهدف أن نستمر في الظهور على الناس ونَصِل للشُهرة. بل كان الهدف هو إيصال الرسالة التي توضح للمجتمع أن الدين بعيد كُل البُعد عن العادات والتقاليد. الدين شيء آخر تماماً”.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي