راغدة درغام –
القاسم المشترك بين ما تريده روسيا من الدول العربية التي يزورها قادتها على أعلى المستويات وبين ما تريده هذه الدول من موسكو هو أولاً، الرغبة في تطوير علاقات عربية – روسية تقفز على حواجز العلاقة الروسية – الإيرانية التي أثارت الشكوك العربية، وثانياً، الاستعداد لملء الفراغ الذي خلّفته سياسات الرئيس باراك أوباما في الساحة الخليجية ومع مصر، والتي أثارت الفتور في العلاقة العربية – الأميركية. هذا لا يعني أن الدول الخليجية ومصر والأردن قررت الاستغناء تماماً عن الولايات المتحدة واستبدال العلاقة الأمنية معها باللاعب الروسي. وزيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الأسبوع المقبل واشنطن ستؤكد استمرارية العلاقات الأميركية – الخليجية إثر الشراكة الأميركية – الإيرانية الجديدة التي أطلقها الاتفاق النووي مع طهران، وإن كان بحلّة مختلفة لا تخفي ما أصاب هذه العلاقات من تشقق. لن يكفي رقص التانغو بين القيادات العربية والقيادة الروسية لإشعار واشنطن بأن جديداً كسَرَ إيقاع العلاقة العربية – الأميركية وأن البديل متاح في العلاقة مع روسيا. ولن يكفي الإيحاء بالارتياح المصطنع إلى الشراكة الأميركية – الإيرانية وإضفاء أدوات القيادة الإقليمية على طهران. الضروري هو التوجه العربي إلى واشنطن وموسكو بمطالب واضحة ومواقف صارمة تمتد من العناوين الكبرى في موضوع اليمن الذي يتعلق بالأمن القومي السعودي والخليجي بصورة مباشرة، إلى العناوين «الأصغر» مثل انزلاق لبنان إلى الهاوية بقرار إيراني – انتقاماً من اليمن. لا الانفتاح الروسي ولا الانغلاق الأميركي سيغيّر درب المنطقة العربية ما لم تأخذ القيادات العربية قرارات نوعية وتستدرك ما ارتكبته من أخطاء وتسير في خطوات مرسومة. ومن المفيد ما يحدث حالياً وما يسمى «البراغماتية» العملية التي تسلكها قيادات عربية إزاء ما يسمى «الواقعية السياسية» للعلاقة الإيرانية المتميزة لدى كل من موسكو وواشنطن وبقية العواصم الغربية. الزيارات العربية المهمة هذا الأسبوع إلى موسكو – وما سبقها وسيليها – مؤشر إلى أحاديث بلغة مختلفة يجب أن تبقى منطقية مهما كانت ضرورية. ونقطة الانطلاق هي فهم ما تريده موسكو من انفتاحها على منطقة الخليج مع احتفاظها بتحالفها مع إيران.
بعض ما يريده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته المخضرم سيرغي لافروف ينطلق من تثبيت إعادة الاعتبار والمكانة لروسيا في الأذهان العربية. فهذه علاقة كانت دافئة جداً أثناء العهد السوفياتي مثل العلاقة المصرية – السوفياتية، وتطورت إلى علاقة تصادمية تعدّت مجرد الفتور والاستياء بسبب المواقف الروسية من سورية، بل دخلت خانة التشكيك بأهداف روسيا وراء تحالفها مع إيران ونزاعها مع العرب.
روسيا اليوم في عهد بوتين تريد استعادة نفوذها في منطقة الشرق الأوسط عبر مفاتيح جديدة وليس عبر رعاية حل النزاع العربي – الإسرائيلي الذي ابتعدت عنه عمداً. اختارت موسكو أن تكون طهران البوابة الرئيسة لها لدخول منطقة الخليج. وبينما اختارت الولايات المتحدة الخروج من تقليدية علاقاتها مع الدول الخليجية عبر البوابة الإيرانية، اختارت روسيا الدخول إلى علاقات جديدة نوعياً مع الدول العربية الخليجية عبر البوابة الإيرانية.
إذاً، إن العلاقة الروسية – الإيرانية ستبقى ثابتة مهما حل بالعلاقات الروسية – العربية. وهذا ما أقرته القيادات العربية وهي تتوجه إلى موسكو للبحث في بناء علاقات جديدة. فلقد توقف نمط المحاولات السابقة لاستقطاب روسيا عبر ترغيبها بمختلف الوسائل بالتحوّل بعيداً من طهران لتقترب من العواصم العربية. اصطدمت أحلام العرب بكسر التحالف بين روسيا وإيران بواقع تحالفهما كخيار استراتيجي.
القيادات العربية التي توجهت إلى موسكو في الآونة الأخيرة يبدو أنها استنتجت أموراً مهمة بينها: أولاً، إن العلاقة الأميركية – الروسية أعمق مما توحي به الخلافات في شأن أوكرانيا أو ما زُعِمَ من اختلاف في شأن سورية. ثانياً، إن كلاً من واشنطن وموسكو مستفيدة من الصفحة الجديدة مع طهران نتيجة تفاهمهما على الاتفاق النووي وكلاهما له مصالحه الاقتصادية والسياسية والنفطية والغازية والتسلحية من هذا الاتفاق. ثالثاً، لا تنافس بينهما على إدارة ملفات النزاعات الإقليمية ولا مانع لدى واشنطن من أن تتصدر موسكو جهود الحل في سورية أو أن تتفاهم مع طهران حول أدوارها في العراق ولبنان. رابعاً، إن سحق «داعش» بات القاسم المشترك الأول في الطموحات الأميركية – الروسية مهما بدا ذلك الطموح حقيقياً أو مصطنعاً.
لعل موضوع مصر هو الذي تصدّر أولويات المحادثات هذا الأسبوع في موسكو، لا سيما أن دولة الإمارات عازمة مع المملكة السعودية على دعم مصر لتسترد قواها الاقتصادية ومكانتها الإقليمية وقدراتها العسكرية بما فيها تمويل صفقات الأسلحة الروسية لمصر. فهذا يأتي في إطار موازين العلاقات بين الدول الكبرى والدول الإقليمية. وبالتالي، تستفيد موسكو من العنصر المصري على أصعدة عدة، نفوذاً وسلاحاً ومالاً وعلاقات استراتيجية مع دول فائقة الأهمية في منطقة الخليج ومع مصر بالدرجة الأولى.
فمصر في طليعة محاربة تفشي «الإخوان المسلمين» في الحكم في كامل المنطقة العربية، وهذا يتلاءم مع المواقف الروسية الأساسية المعارضة لصعود الإسلام السياسي إلى السلطة، مع أن موسكو لا تعارض الحكم الديني في إيران وتتحالف عملياً مع «حزب الله» في دعم النظام في دمشق. إنما الأمر يختلف تماماً لديها عندما تتعلق الأمور بصعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر – والذين دعمت واشنطن في البداية توليهم إياها لدرجة احتكارها. فموسكو تخشى أن يؤدي تمكين أمثال «الإخوان المسلمين» إلى تمتين مواقعهم في الجمهوريات الإسلامية في الجيرة الروسية المباشرة، ومن حيث يمكن تركيا رجب طيب أردوغان الداعم لـ «الإخوان» أن تلعب أوراقاً استراتيجية.
الموضوع الآخر الذي يتخذ عنواناً كبيراً في السياسة الروسية هو مكافحة الإرهاب الإسلامي المتمثل بـ «داعش» و «النصرة» و «القاعدة» وغيرها. إنما تحت هذا العنوان تتعدد الأجندات وتتضارب وتتلاقى في غموض ملفت يشمل مواقف موسكو وواشنطن ولندن وأنقرة وعواصم عربية. ففي ليبيا مثلاً، الحديقة الخلفية لكل من مصر من جهة وأوروبا من جهة أخرى، يبدو القرار الدولي مدهشاً في تركه الساحة الليبية مفتوحة على إنماء حركات التطرف والإرهاب بلا قلق ملحوظ وبلا إجراءات لضبط الأمر.
فلقد بات واضحاً مثلاً أن هناك لا مبالاة بالحدث اللبناني، بل هناك تملص ملحوظ وانسحاب فعلي من الاهتمام بمصير هذا البلد، على رغم خطورة تدميره وإفرازات هذا التدمير على الدول الخليجية. هناك دول خليجية تعي أخطار التراجع عن العلاقات التقليدية المميزة مع لبنان، لذلك يقوم ديبلوماسيوها بالتحرك في الساحة اللبنانية درءاً لفراغ خليجي يترك المجال مفتوحاً أمام ايران بشق الصقور فيها وليس بشق الحمائم.
هذا لا ينفي ولا يخفف مسؤولية الدول الفاعلة تقليدياً في لبنان إزاء مصير هذا البلد. فمن المفيد أن يتطرق الحديث الأميركي – السعودي في واشنطن الأسبوع المقبل إلى ضرورة إثبات حسن النيات الإيرانية فعلياً في الساحة اللبنانية وإثبات العزم الأميركي والسعودي على تسيير هذا البلد في اتجاه بناء المؤسسات وإصلاح الطبقة السياسية المتسلطة بمختلف توجهاتها وهويتها. فالفساد بات وصمة عار على أكثرية الطبقة السياسية وشعار «طلعت ريحتكم» أصاب حقاً بأكثر من فضائح ملف النفايات. ومن الخطأ الفادح أن تتعالى الدول الكبرى الدولية والإقليمية عن ملف لبنان. فهو الآن في حالة حرجة تتطلب أدواراً أميركية وروسية للتأثير في القرار الإيراني في شأن لبنان، وتتطلب انشغالاً عربياً حقيقياً جدياً بحدث هذا البلد، وليس فقط سورية.
الحدث السوري يستولي على أولويات الرياض والقاهرة وعمان والدوحة وأبو ظبي، لذلك تحمل هذه القيادات الملف السوري إلى موسكو – وإلى واشنطن أيضاً – باحثة عن وسائل للتفاهمات. وموسكو منفتحة على إخراج علاقاتها من التوتر والقطيعة مع الدول الخليجية بسبب سورية إلى البناء مع هذه الدول في مجال التعاون التجاري والعسكري إلى جانب الاستثمارات المشتركة في ميدان الطاقة النووية وغيرها.
موسكو منفتحة ليس فقط بسبب أولوياتها الجيوسياسية والفرص الاقتصادية والعسكرية وتلك التي تدخل في خانة النفوذ السياسي. فالسبب الآخر هو ما أحسن الزميل رائد جبر مندوب «الحياة» في موسكو، نقله عن محللين سياسيين أن تحركات روسيا تقوم على خطين متوازيين، الأول يتمسك بدور فاعل لموسكو في الأزمات الإقليمية وأبرزها حالياً سورية، والثاني «محاولة ترتيب الأجندة الروسية في المنطقة، وفتح آفاق جديدة تحسباً لخسارة محتملة في سورية، واستجابة لضرورات الواقع الجديد وتوقعاته بعد توقيع الاتفاق النووي مع طهران».
أجواء «الواقعية السياسية» تشق طريقها إلى شتى العواصم من باب حسابات الخسائر والأرباح. المهم ألا يستمر نمط اللامبالاة بما يؤدي إلى تدمير بلاد عربية إضافية بعد الانتهاء من تدمير مرعب في سورية وليبيا واليمن والعراق. هكذا فقط، يمكن إثبات حسن تفكير وحسن نيات الواقعية السياسية الجديدة.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي