جان عزيز-
كانت الطائرة الآتية من بيروت، تقترب ببطء من مطار صبيحة الدولي في اسطنبول. كل ما فيها كان هجيناً. اسم شركة الطيران المسجل على وريقة الحجز، لا يطابق اللااسم المخفي عن بطنها الملتبس اللون بعد أعوام من الصدأ والمكارية… والاسمان مختلفان عن الاسم الثالث الذي يظهر أمامك على أوراق تعليمات الكوارث. أوراق شكلية، لكن للمرة الأولى ثمة ما يدفعك إلى قراءتها بتمعن. حتى قبل أن يطلب منك ذلك طاقم الرحلة، وهم يقفون قرب باب المرحاض بثياب غير موحدة وسحنات غير ودودة…
كل ما في الطائرة «المبندقة» لم يكن ليفسر أو يبرر ذلك التوتر الذي كان طاقمها يظهره في التعاطي مع الركاب. توتر يلامس العدائية في بعض المواقف. حتى صدح صوت قبطان الرحلة عبر المذياع المتحشرج، مبشّراً المنكوبين على أجنحته، بقرب الخلاص منهم أو منها، برميهم في الأراضي التركية. كرر القبطان بشارته بلغتين، قبل أن يفرد للغة العربية ويخص ناطقيها بعبارة خاصة بها وبهم: «أعزائي المسافرين، من أجل سلامتكم الشخصية، نطلب منكم عدم أخذ سترات النجاة المخصصة للطائرة عند الوصول ونزولكم منها. لأن ذلك سيعرضكم لمتاعب مع سلطات المطار»!
عبارة واحدة كافية لتزيل نقاباً غير مرئي عن عينيك. مماثل لدزينة منها تكتشفها لحظتها وأنت ترفع ناظريك وتتأمل رفاق الرحلة. بينهم عشرات من الشبان. كلهم في العقد الثاني من العمر. وجوه ترك عليها البؤس كل سيمائه والبصمات. فيما ينتقل بصرك من اكتشاف إلى آخر، تصلك همساتهم ونتف من عبارات مهربة في ما بينهم. اللهجة سورية واضحة. الحقائب خفيفة. العيون ملتمعة بشيء بين القلق والترقب، بين خوف فشل وأمل خلاص. في لحظات، تربط بين تلك الأثقال الهائمة أطيافاً على أكتافهم، وبين تحذير قبطان الطائرة حول سترات النجاة. تدرك السر المكشوف أصلاً، إلا لذهنك الغارق في نفايات بلد منفي من اهتمامات العالم. تفهم أن هؤلاء جزء من بروتوكول يومي بدأ منذ أسابيع. يحمل كل نهار بضع شحنات من أعداد كانوا أسماء وأناساً وبشراً ومواطنين، قبل أن يتحولوا أرقاماً مسجلة على لوائح تجار تهريب اللاجئين السوريين إلى الغرب، عبر تركيا. تتذكر تحقيقات الإعلام الغربي حول مآسيهم ومعاناتهم وسبل تخفّيهم وإخفاء آخر سبل عيشهم وبقائهم أحياء. حتى يخلصوا إلى «عالم الكفار»، وينعتقوا من «جنات» أمتهم المتحولة جحيماً لحظياً مستداماً ومؤبداً. تحاول بحياء وتكتم تفتيشهم نظرياً بحثاً عن عدة الهرب. تنظر إلى جواربهم، تلك التي قال أحد أترابهم لشبكة تلفزة أميركية، أنه خبأ فيها آخر فلس وآخر لقمة خبز. لا تجد على أجسادهم ما يخبئ ولا ما يخبأ. بؤساء في هيئات مسافرين. يرمون أنفسهم على ذلك الجسر بين شرق وغرب. جسر طالما تغنى بتفاعل الدور والموقع و»العمق الاستراتيجي». هو فعلاً ممر أحادي الاتجاه من البؤس والموت، صوب حرية وحياة مزعومتين موعودتين.
على أرض المطار، تغمرك وإياهم صلافة المضيف التركي وجلفه الموروث من قرون. غير أن جار سوريا الآخر، يخصص أبناءها بميزة تفاضلية أخرى للترحيب بهم. يقف الأمني التركي وسط صفوف الشبان المفضوحي الهوية والارتماء، يحمل عدسة مجهرية مكبرة، ينتزع جوازات سفرهم ليدقق بواسطتها في أصليتها. تفهم مجدداً أن وحده السوري الأصيل مرشح مقبول للتصدير خارج أرضه وشرقه. وتفهم كيف لمأساة هؤلاء البشر أن ولدت مفارقة، عنوانها أن يتحول جواز سفرهم، عنوان نكبتهم منذ أعوام، موضوع تزوير من قبل كل مقهوري الشرق، أملاً بملاذ اللجوء المفتوح للسوريين في الغرب «العدو الامبريالي العنصري اللاإنساني المقيت البغيض الكافر…»، كما دأبت خشبيات أنظمتهم وسلطاتهم على وصفه وتوصيفه، طيلة عقود قهرهم بالحديد والنار. تجتاز معهم مطهر المطار المتحول ساحة حشد وحشر، تحسب أنك أضعتهم، أو أنهم ذابوا في قارة الامبراطورية السابقة، العائدة اليوم فوق دمائهم والآلام. غير أن ساحة تقسيم الشاسعة، لا تلبث أن تعيد لم شملك معهم. هناك، بين أول الاستقلال المتدفق شلال بشر وتجار، وبين أطراف حديقة الثورة ضد إردوغان، تلتقيهم مجدداً. بأعداد أكثر من طائرة تهريب، وأغزر من أساطيل هرب. يفترشون التراب وآخر العشب المسحوق مثلهم. يتوزعون على مهمات متعددة. قرب باب الفندق تقف النسوة مع رضعهن، يتسولن وجوها تشبههن، باستغاثات «كرامة للنبي». وسط الساحة، يتحلق شبان أكثر حلماً وأملاً. يحملون آلات موسيقية مخدشة كوجوههم معتقة الأوتار كأصواتهم. يصدحون بفيروز: «خدني على بلادي». يظلون يكررونها حتى تلتم حولهم كل الساحة. فيشغر في طرفها مكان لثلاثة أطفال دون العاشرة. يركضون في كل اتجاه بهستيرية. يلعبون «الغميضة» الحديثة. يلاحق اثنان منهم ثالثهم دورياً. حتى يمسكا به، فيطرحاه أرضاً، قبل أن ينقضا عليه بخنجرين من البلاستيك، يضيئان ببطاريات صينية، يمثلان طعنه وهما يصرخان بصوتين طفوليين: الله أكبر!
من غارات سوريا، حتى غارة الطفلين في ساحة اسطنبول، كأنه الحل القيصري لما كان يوماً بلداً وشعباً. ترى، من سيسأل أو يسائل المسؤول عن كل ذلك الدم، منذ أعوام، منذ عقود، منذ قرون؟!
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي