محمد بلوط-
الزبداني تتقاعد من الحرب في سوريا، على يد المقاومة والجيش السوري والأمم المتحدة. واتفاق اسطنبول الإيراني ـ التركي، ينهي بؤرة الزبداني في خاصرة دمشق ولبنان.
ومقابل تقاعد الزبداني، تبقى الفوعة وكفريا، بيد المقاومة وأربعة آلاف مقاتل من اللجان الشعبية فيها في قلب إدلب، كرأس جسر للعمليات الروسية ـ السورية الجارية لاستعادة المنطقة، وضم الآلاف من المقاتلين المجربين إلى الوحدات السورية التي تتقدم في المنطقة، وسد ثغرة نقص العديد.
الحافلات الأربع وسيارات الهلال الأحمر السوري الثماني أخرجت أمس من المدينة، شبه المدمرة بعد خمسة أشهر من القتال، 70 مقاتلاً جريحاً، و18 من الزوجات، و35 هم آخر المدنيين في المدينة من المسنين، لكنها أخرجت الزبداني نهائياً من الخريطة العسكرية السورية، وبيانات المجموعات المسلحة، وأغلقت البوابة المشرعة على البقاع اللبناني الأوسط، ودروب الإمداد سلاحاً واستشفاءً وتمويناً، لتهديد دمشق من ريفها الغربي.
ويقول مسؤول من المعارضة في الزبداني إن من بقي من المسلحين لن ينتظر المرحلة المقبلة من العملية، ويبحث عن تسليم نفسه الى حواجز الجيش السوري. ويوضح أن المسلحين باتوا من دون قيادة، خصوصاً أن تسعة من قادتهم غادروا الزبداني في حافلات الإخلاء أمس إلى لبنان، بعد أن دسوا أسماءهم في لائحة الجرحى، بقرار من «أحرار الشام». وكان بارزاً أن يفر من المدينة الشيخ محمد علي الدرساني (أبو مأمون) رئيس «المجلس المحلي في الزبداني»، الذي ينتمي الى جماعة «الإخوان المسلمين»، وأحد الوجوه الأكثر تطرفاً ومعارضة للاتفاق. كما أخرج ابو عدنان زيتون شقيقين له في العملية، و«الصيدلاني» أحد المسؤولين العسكريين والقيادي حسن التيناوي. وكان محمد حسن خريطة، مساعد زيتون، قد فر إلى مضايا، ومنها إلى لبنان فتركيا قبل شهر من الآن. وخرج نائبه أبو مصعب حمدان إلى الجبل الشرقي. وفقد «لواء الفرسان»، القوة الثانية في الزبداني، رأسه أبو علي عبد الرحمن العامر، الذي انسحب جريحاً، قبل شهر الى لبنان، عبر دير العشاير. وباستثناء أبو عدنان زيتون، لم يبقَ أحد من قادة المجموعات المسلحة في الزبداني.
والأرجح أن ستة إيرانيين من ضباط الاستخبارات وزملاءهم الأتراك كانوا يراقبون شاشات التلفزة، وهي تعرض أمس، قوافل الصفقة التي عقدوها في الأسبوع الأول من آب الماضي، وهي تعبر معبر باب الهوى السوري ـ التركي نحو مطار أنطاليا فبيروت، ناقلة 107 جرحى من مقاتلي اللجان الشعبية في كفريا والفوعة، برفقة 130 من أفراد عائلاتهم.
ويقول مصدر سوري معارض إن أكثر ما أثار استغراب ممثلي «أحرار الشام» في اسطنبول في الجلسة الأولى للتفاوض مع الجانب الإيراني، تحت أنظار الاستخبارات التركية ليس اعتدادهم بأنفسهم، ولا تصرفهم كمنتصرين طيلة الوقت، ولكن الأغرب بنظرهم هو أن عقيد الاستخبارات الإيرانية والمفاوض الرئيسي قد تكنى بأبي عثمان، وهو ما لا يشبه تصورات «الأحرار» المضللة عن الشيعي الإيراني، ونبذه المفترض لثالث خليفة الإسلام وقطب السلف الصالح.
لكن دهشتهم لم تمنع أن تنعقد 20 جلسة من المفاوضات خلال أكثر من شهرين، بدءاً من حزيران الماضي، حتى منتصف آب الذي شهد المحاولة الأولى لوقف إطلاق النار المجهض. كما لم تحل أيضاً دون أن يجلس لبيب النحاس (أبو عز الدين)، وجه «السياسة» الأبرز في «أحرار الشام»، أكبر الفصائل المسلحة في الزبداني، والمتحدث باسم مجلسها السياسي، ليحاور العقيد الإيراني أبي عثمان، ومعه ثلة من المسؤولين العسكريين، على رأسهم «أبو مصطفى».
وكان الأتراك قد دعوا إلى اختبار التفاوض أيضاً، مع الاستخبارات الإيرانية في اسطنبول، مسؤولين في قيادات «فيلق الشام» الإخواني، بعد أن كان قد مضى على فراقهم لطهران أكثر من أربعة أعوام، مبتعدين عن آخر لقاء جمع «الإخوان» السوريين في ميونيخ، بممثلين عنها في صيف العام الأول من الحرب السورية، إلى خيار السلاح. ولاقت الدعوة تشجيعاً من «أحرار الشام»، برغم أن «فيلق الشام» لا يملك مقاتلين يهادنون في الزبداني، ولكن حرصاً على عدم الانفراد بالتفاوض مع الإيرانيين في اسطنبول، أو عقد صفقة معهم لا تلقى تأييداً من جانب «إخوة الجهاد» بل تعريضاً وهجاءً. كما أن الأتراك جعلوا من «فيلق الشام» ضامن سلامة قافلة الخارجين من حصار كفريا والفوعة نحو باب الهوى، بسبب انتشار مقاتليهم على جنبات الطريق إلى باب الهوى، وفي القرى والبلدات التي عبرتها أمس.
وكانت المفاوضات أوسع مما خلص إليه الاتفاق في اسطنبول، إذ كان «أحرار الشام»، مع الأتراك، يحاولون ضم الغوطة الشرقية بأكملها إلى الهدنة المنشودة، لكن الإيرانيين لم يجدوا الصفقة المعروضة عليهم مغرية، ولا مجزية سياسياً لحليفهم السوري، الذي كان يخوض معارك كبيرة في الغوطة الشرقية، ويفاوض على هدنة بشروط أفضل. كما أن «أحرار الشام» لا تحوز تفويضاً من القوى الفعلية المؤثرة في الغوطة، لا سيما «جيش الإسلام»، لكنها حاولت وفشلت في تحقيق إنجاز سياسي، يمنح الأتراك أفضلية سياسية وعسكرية، في قلب منطقة «النفوذ» السعودي.
لم يملك الإيرانيون تفويضاً آنذاك، يتجاوز إجراء صفقة تتضمن ثلاث مراحل. المرحلة الأولى وقف العمليات العسكرية للمقاومة والجيش السوري في الزبداني، وإدلب، وبنش، ومعرتمصرين، ورام حمدان، وتفتناز، وطعوم، وزردانة وشلخ، بوقف مماثل للمجموعات المسلحة في كفريا والفوعة، وإمداد المحاصرين فيهما، على أن يليها في المرحلة الثانية إخلاء الجرحى من بين المقاتلين الستمئة من حصارهم في الكيلومتر المربع الأخير في الزبداني، وتسوية أوضاع من يبقى منهم مع السلطات السورية، ومن 120 مقاتلاً في مضايا، ومثلهم في سرغايا، وإمداد 40 ألف مدني في الأولى وثلاثة آلاف مدني في الثانية، مقابل إخراج عشرة آلاف مدني من كفريا والفوعة، من أصل 20 ألفاً على الأقل، وإخلاء الجرحى عبر تركيا إلى بيروت، وهي المرحلة الثانية من الاتفاق، التي تم إنجازها أمس.
وشهدت بيروت المفاوضات الأخيرة مع الجانب الأممي، للتفاهم على التفاصيل النهائية، لعمليات إخلاء الجرحى، بعد استنفاد الجانب العسكري والسياسي في اسطنبول إيرانياً وتركياً. لكن الاتفاق واجه أكثر من رهان إقليمي، لمنع تنفيذه، فما إن انفض الاجتماع في اسطنبول حتى سقطت هدنة الخامس عشر من آب، من دون أي عملية إخلاء من الجانبين. ولم يسعف الحظ الهدنة الثانية في 27 آب، برغم تمديدها ثلاثة أيام أشاعت أملاً كاذباً، بقرب وقف حرب الزبداني، التي كانت أوراقها تنزلق تدريجياً من يد المفاوض التركي. وكانت العملية التي أطلقتها المقاومة ومجموعات «الغالبون» والفرقة الرابعة المدرعة السورية قد ألحقت هزيمة بـ «لواء حمزة بن عبد المطلب»، الذي يقوده أبو عدنان زيتون، بعد انتقال المعركة تدريجياً من التلال إلى قلب المدينة.
وفي 18 آب اختبر الأتراك، للمرة الأخيرة، الخيار العسكري لإسقاط كفريا والفوعة، والاستغناء عن التفاهم مع الإيرانيين. وخلال أسوأ أيام الهجوم على الفوعة وكفريا استدعى الأتراك المقاتلين «الاويغور» الصينيين بعد أن فشل «جيش الفتح» باقتحام خطوط الدفاع عن المدينتين خلال سبعة أشهر. وتقدم سبعة انتحاريين في عربات تحمل أطناناً من المتفجرات لفتح ثغرة نحو مذبحة منتظرة تُعدّ للمحاصرين، الذين قاتلوا بشجاعة وبأس شديدين عن أهلهم. وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان» فقد بلغ عدد الانتحاريين 26، من بينهم 11 صينياً تركستانياً، ولبناني، وسعوديان، و11 سورياً، لكن المعركة انجلت عن ضرورة العودة إلى الاتفاق.
وجليّ أن الورقة الفعلية في يد المقاومة والجيش السوري لم تكن الزبداني، إذ لم يشكل المربع الأخير في المدينة ورقة التفاوض والضغط الحقيقية، للتوصل إلى تفاهم يحمي كفريا والفوعة، وينهي الاختراق التركي و «الجهادي» على تخوم دمشق والبقاع اللبناني الأوسط، ويحمي نهائياً طريق بيروت – دمشق من أي تهديد من بؤرة الزبداني، التي لا تبعد عنه أكثر من كيلومترين. وكان قرار الاحتفاظ بها وعدم اقتحامها بالكامل، ورقة احتياطية، إذ لم يكن بوسع من بقوا فيها مواصلة القتال، بعد أن دمرت المقاومة كل أنفاقهم نحو بقين بشكل خاص.
أما الورقة الأولى للضغط بيد المقاومة والجيش السوري فهي مضايا، التي يحاصران فيها 120 مسلحاً وآلاف المدنيين، حيث تمهلا في اقتحامها، وفضلا أن يفرضا عليها معاملة مشابهة لما يلقاه المدنيون في كفريا والفوعة من حصار. ويمثل تقدم المقاومة والجيش الواسع في ريف حلب الجنوبي الورقة الأساسية التي قلبت المعادلة والرهانات على خيارات تركية غير خيار الرضوخ للعرض الإيراني. وشاركت في الهجوم الذي بدأ قبل شهرين، إلى جانب الجيش السوري، قوات من المقاومة ووحدات من «النجباء» العراقيين والحرس الثوري الإيراني. ومع اقتراب القوات المهاجمة من 17 كيلومتراً من كفريا والفوعة ، بدا أن المقاومة تملك خيارات جديدة، عبر اختراق السهل نحو تفتناز، ومنها إلى كفريا والفوعة، ووضع كل البلدات المحيطة بهما مجدداً في مرمى المدفعية السورية، فضلاً عن دخول الغطاء الجوي الروسي بقوة إلى المشهد.
ولن يكون سهلاً مقاربة المرحلة الأخيرة من الاتفاق، لأن كل بند فيه يحتاج إلى المزيد من المفاوضات. وكان إنجاز الأمس، قد احتاج إلى مفاوضات مطولة في المرحلة الأخيرة، شارك فيها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، لوضع الآليات التنفيذية للاتفاق، وحل العقد اللوجستية، وتثبيت تزامن محطات انتقال قوافل من بضع مئات من الجرحى من الطرفين، فيما تشمل المرحلة المقبلة، التي لم تعلن لها أي رزنامة أو مواعيد، عشرة آلاف مدني على الأقل في كفريا والفوعة.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي