قاسم سليماني.. القائد الذي لا يترجل

علي شهاب-

خمسة وثلاثون عاماً من «الجهاد»، أمضى الجنرال قاسم سليماني معظمها خارج الأضواء حتى العقد الأخير، حين أفرز الغزو الأميركي للعراق واقعاً إقليمياً ودولياً جديداً، ارتأت معه قيادة الحرس الثوري، ومن خلفها الولي الفقيه، التعامل بحزم وقوة مع المستجدات. فانتقل الحاج من الظل إلى موقع البطل القومي الذي تُكتب عنه القصص وتُنتج الأفلام.

يسعى سليماني خلف الموت منذ الحرب العراقية ـ الإيرانية. وهذا الأسبوع أعلن ممثل الولي الفقيه في الحرس الثوري الإيراني انتهاء القسم الأول من المذكرات الخاصة بسليماني، لكن هذه المذكرات التي تحوي قصصاً من ذاكرة فرقة «ثار الله 41» التي كان يرأسها الجنرال في مطلع الثمانينيات «لن تُنشر ما دام الحاج حيا» نزولا عند رغبته.

شهادة سليماني مشروع مؤجل، على الرغم من أن التنظيمات التكفيرية في سوريا والعراق قتلته أكثر من سبع مرات حتى الساعة. يطارد الموت الجنرال كما يطارده هو.

في الحرس الثوري مئات الضباط من صف الحاج قاسم، لكن الحرب تصنع دوماً رموزها ورجالها. بهذا المعنى صار سليماني حاجةً لدى جميع الأطراف: هو القائد العسكري الآسر الذي يتقدم المجاهدين في الميدان، وهو العقل المدبر الذي يظن أعداؤه أن بقتله يكسرون شوكة أنصاره.

وما بين الاثنين، يولي الرجل، الذي بات على مشارف الستين من العمر، أهمية قصوى لواجبه العسكري. وهذا الواجب في مؤسسة عقائدية كالحرس الثوري لا يقف عند حدود الخطط والتكتيكات، بل هو مرتبط بشكل عضوي بجوانب معنوية يصير معها ضرورياً استحضار مفاهيم الثورة والجهاد والحق ومقارعة الظلم والباطل باعتبارها شرائط للفوز بإحدى الاثنتين: النصر أو الشهادة.

من هنا، لا تكاد لغة سليماني في أحاديثه الجانبية، كما في خطاباته التعبوية، تخلو من مفردات دينية حماسية، كما هو حال مسلكه الاجتماعي الذي يتسم بالبساطة والتواضع والكرم والزهد.

يروي بعض من التقاه في إيران، قبل أن يملأ صيتُه وسائلَ الإعلام، أن أحداً لا يمكن أن يصدّق أن الشخص الجالس أمامه هو نفسه قائد واحدة من أهم أذرع الحرس الثوري في المنطقة.

تزخر ذاكرة المقربين منه بقصص من معارك «كربلاء 5»، و «كربلاء 6»، و «كربلاء 10»، و «الفجر 1»، و «الفجر 5»، و «بدر»، و «خيبر»، و «فروغ جاویدان» (مرصاد) وغيرها العشرات من العمليات المفصلية إبان الحرب العراقية ـ الإيرانية (يصدر بحلول آذار العام 2016 كتاب إيراني مترجم للعربية يوثق بعض هذه القصص).

لكن توثيق القصص المعاصرة في الساحتَين السورية والعراقية يصطدم برفض سليماني شخصياً. تلعب الاعتباراتُ الأمنية دورَها في تشكّل بعض الأسباب الموجبة لهذا الرفض، فضلا عن ايلائه المعارك الميدانية الدائرة منذ بدء الأزمة في سوريا تحديداً الأولوية على كل ما عداها. بهذا المعنى بإمكان كل المشاريع السياسية والإعلامية، بالنسبة إلى الـ «حجي»، أن تنتظر، وإن كانت مهامه، في كثير من الأحيان، تتجاوز حدود العمل العسكري لتجره إلى أدوار سياسية يعتمد في تأديتها على اللين والسعي للإقناع بالمنطق في غالبية الأحيان.

وأمام رفضه الإفصاح عما في جعبته، تندرج صفحات عديدة من فصول سيرته ضمن المجهول، تماماً كما حصل مع صديقه المقرب عماد مغنية الذي تتخطى مساهماته حدود العمل الأمني والعسكري في النطاق الجغرافي المتداول إعلاميا، لتلامس حد المشاركة في مشاريع كبرى مختلفة على مستوى الجمهورية الإسلامية.

وبالعودة إلى سيرته المعلنة، فإن لنشأة سليماني في بلدة «رابورد» الجبلية الفقيرة في محافظة كرمان دوراً جوهرياً في بناء شخصيته لناحية القدرة على التعامل مع التركيبات العشائرية والقبلية السائدة في العراق وسوريا (وأفغانستان سابقاً حين كان مسؤولاً عن الأمن الحدودي معها).

واليوم بعدما أثبتت إستراتيجية سليماني تقدمها على إستراتيجية الرئيس الأميركي باراك أوباما في مواجهة «داعش» و «جبهة النصرة» وغيرها من التنظيمات الإرهابية، انتقل الجنرال من دور الضابط الإيراني الرفيع المستوى إلى مرتبة المبعوث الإيراني الخاص للولي الفقيه، من دون أن يغير المنصب الجديد من سماته الشخصية، بل يمكن القول إنه قد زاد تواضعاً وتركيزاً على نيل الشهادة.

يتولى سليماني حالياً الإشراف على جميع مراحل العمليات، بدءاً من دراسة الميدان قبل أسابيع من تنفيذ أي هجوم إلى تأمين اللوجستيات وتوزيع المهام على المجموعات القتالية وحتى زيارة الجرحى بعد كل عملية.

وهو في تنقله الدائم ما بين سوريا والعراق، يزداد ارتباطاً وقرباً من المقاتلين. بعض قادة الفصائل المنضوية تحت إطار الحشد الشعبي العراقي يعرفون سليماني منذ أكثر من 20 عاماً.

الصلات الشخصية التي يحرص الجنرال على نسجها مع كل مَن يتعرف عليه هي أحدى ابرز عناصر نجاح رؤيته في العراق. ففي حين قامت الإستراتيجية الأميركية على خطط نظرية بعيدة المدى، ارتكزت إستراتيجية سليماني على نقل الخبرات والسلاح إلى العراقيين أنفسهم، والتدخل لدى الحاجة في التوجيه والقيادة، مع توفير كامل مقومات الدعم المعنوي للمقاتل العراقي.

لا يكاد يمر أسبوع من دون نشر شائعة تطاله. حتى الشهرين الأخيرين، لم يكن سليماني يعير هذه الشائعات الاهتمام الكثير، غير أن دخول روسيا على خط التحالف الميداني مع إيران في سوريا، وملابسات معركتَي حلب والرمادي، دعتا قيادة الحرس إلى إيلاء اهتمام أكبر لإطلالات سليماني الإعلامية عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

هي نفسها المصلحة التي اقتضت في أن يظهر في تشييع السفير السابق غضنفر ركن آبادي في طهران ليرد على شائعة إصابته بالتذكير باضطراره لقطع السهول والجبال طوال حياته لتحقيق أمنية الشهادة. هي نفسها الأمنية التي باح بها الجنرال قاسم سليماني عقب العدوان الأخير على غزة: «نذكر الجميع بأننا عشاق شهادة، والشهادة على خط فلسطين والشهادة في مسار القدس هما أمنية يتوق إليها كل شريف وأحرار العالم». حين يأتي ذلك اليوم الذي تتحقق فيه أمنيته، ستكون مناسبة للحديث عن فصول مخفية من حياة هذا الرجل الذي يشغل الشرق الأوسط.

http://assafir.com/Article/20/464325

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة