بدأت الحكاية يوم قرّرت لينا قضاء عطلتها على شاطئ صور. جهّزت وعائلتَها الأمتعة وأدوات السباحة الخاصّة بالرّحلة، وانطلقوا جميعاً للترفيه عن أنفسهم على واحدٍ من أجمل شواطئ لبنان.
في البداية، كانت السباحة من أجمل ما يكون، فالشمس الحارقة التي تخفّ وطأتها مع دخول المياه المعتدلة شعورٌ يكاد يكون “لا يوصف”.
لكنّ الأمر ما لبث أن تحوّل إلى كارثة عندما شعرت الصبية العشرينية بشيءٍ غريبٍ يلتفّ على ساقها اليمنى، تبعه حريقٌ هائلٌ في المنطقة نفسها. للوهلة الأولى لم تستطِع لينا تمييز ما التفّ حول ساقها. ظنّت أنّ كيس نفاياتٍ تطفّل على خلوتها، لكنّها سرعان ما اكتشفت أنّ قنديل بحرٍ كبيراً هو الفاعل. وكما أشارت تعليمات المحيطين، عمدت لينا إلى فرك المنطقة المصابة بالخلّ والثّلج كي تستطيع التّخلّص من الحريق الهائل.
ليست الحادثة التي تعرّضت لها لينا بالفريدة من نوعها. عشرات الأشخاص، إن لم نقل المئات، يتعرّضون إلى “هجمات” قناديل البحر الّتي تتّخذ في أيامنا الحارّة هذه مستقرّاً لها في المياه اللبنانية.
قناديل لبنان في ازديادٍ
يبلغ طول الساحل اللبناني المطلّ على البحر الأبيض المتوسّط 225 كيلومتراً. ويسري على الشواطئ اللبنانية ما يسري على باقي شواطئ المتوسّط. عشرات الآلاف من القناديل البحرية، إن لم نقل مئات الآلاف، تتّخذ من شواطئه ومياهه البحرية مستقرّاً لها. وقد أصبح مشهد قناديل البحر “المتفشّية” في مياه وشواطئ لبنان مؤخراً يسترعي الانتباه. وما شهدته شواطئ صيدا وصور وأنفة وجونية مؤخراً من “غزوٍ” للقناديل ليس سوى مثالاً على تفشّي الظاهرة.
يتحدّث خبير الشؤون البحرية في جامعة “البلمند” منال نادر عن “الحالة الطبيعية لتفشي القناديل”، مشيراً إلى أنّ ” المشكلة الأساسية المتعلٌّقة بالقناديل هي في تفاوت عددها على مرّ السنين أو أيّام السنة نفسها”.
يُفنّد نادر، في حديثٍ لـ”السفير” الأسباب المتعلّقة باتزايد عدد القناديل فـ”نسبة الغذاء الموجودة بالمياه، وأشعّة الشّمس المُسلَّطة على المياه (وجود غيم من عدمه)، إلى جانب حرارة المياه، وعدد الحيوانات والمخلوقات الموجودة داخل المياه والّتي تأكل القناديل”، كلّها عوامل تؤثّر على ارتفاع أو انخفاض نسبة تكاثر القناديل في المياه. وقد اجتمعت، في الحالة اللبنانية، كلّ تلك العوامل مع بعضها البعض لتشكّل “بيئة مثاليّة لازدياد عدد القناديل”. كما “أدّى تساقط الأمطار الهائل الّذي شهده لبنان هذا العامّ إلى إحداث فيضاناتٍ جارفة أدّت إلى جرف الموادّ العضويّة نحو المناطق الساحليّة، وتُعتبر هذه الموادّ موضوعاً أساسيًّا لإيصال الغذاء للمناطق الساحليّة”. يشير نادر إلى أنّ هذه الموادّ، والّتي هي عبارة عن أوراق أشجار ونباتات وغيرها، قد تكسّرت في المياه وأصبحت غذاءً للمخلوقات البحريّة ومنها قناديل البحر”.
مصير هذه الموادّ الغذائيّة التي تعتاش عليها القناديل هو الانتهاء، وعند حصول ذلك تبدأ القناديل بالموت والنّزول نحو قعر البحر. تحصل عمليّة “الاضمحلال” عادةً خلال شهر آب، إلّا أنّ الأمر لا يمكن جزمه فهو قد يمتدّ أشهراً إضافيّة، تبعاً للعوامل المرافقة.
تجربة “خطر قناديل المتوسّط”
لا يقتصر “غزو” القناديل على لبنان فقط. صيف كلّ عامّ، تتعرّض شواطئ البحر الأبيض المتوسّط إلى تزايد عدد القناديل بشكلٍ ملفت وبوتيرةٍ سريعة. يعود هذا التّفشّي إلى عوامل كثيرة. وإلى جانب ما تقدّم من أسباب، تُعتبر الأنشطة البشريّة المتنوّعة كالنّقل البحريّ واستغلال الموارد الحيّة، وتغيّر المناخ، من الأسباب الرئيسيّة لهذا الازدياد.
عددٌ كبيرٌ من الدول الواقعة على سواحل المتوسّط وعى خطورة القناديل. فـ”غزو” هذه المخلوقات للبحار والشواطئ وتعريضها المواطنين والسائحين لخطر الإصابة أو الموت، وبالتّالي ارتفاع كلفة الاستشفاء والطبابة على الحكومات، دقّ ناقوسَ الخطر. بناءً عليه، هرعت الدّول إلى استحداث خططٍ وقوانين لمواجهة خطر القناديل. وقد عمدت، منذ ثلاث سنوات، أربع دولٍ واقعةٍ على المتوسّط إلى تنفيذ مشروعٍ متكاملٍ للحد من قناديل البحر.
اختار القيّمون على هذا المشروع عنواناً له هو “خطر قناديل البحر المتوسط”. ويعرّف البرنامج نفسه على أنّه الرصد المتكامل لتفشّي القناديل تحت التأثيرات البشرية والمناخيّة في البحر المتوسّط (المناطق الساحلية)، إلى جانب المخاطر الغذائية والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
يتضمّن اتّحاد المشروع خمسة معاهد شريكة هي: إيطاليا (اتحاد الجامعات الوطنية للعلوم البحرية لاتسيو)، إسبانيا (معهد علوم البحار، كاتالونيا)، مالطا (جامعة مالطا، المعهد الدولي للمحيطات- مركز مالطا التشغيلي)، تونس (ولها مساهمان هما كلية العلوم بينزرت- قسم علوم الحياة، والمعهد الوطني للعلوم الفلاحية بتونس).
إلى جانب المساهمين الأساسيين، سيعيّن المشروع شبكة من خبراء برنامج التعاون المشترك عبر الحدود “سي بي أس” لتطوير وتطبيق بروتوكولات مشتركة لتقدير المخاطر البيئية والصحية لانتشار قناديل البحر. وسيطور المشروع مبادئ توجيهية للإدارة واستراتيجيات التكيف المقبلة والسياسات واللوائح من اجل التشارك في إدارةٍ متكاملة للمناطق الساحلية في البحر المتوسّط. كما أنّه يُتوقّع أن يتجاوز المشروع حدود الشراكة الحالية، وشراكة الحدود الإقليمية على حدٍّ سواء.
وكي يتمكّن الناس من الاستفادة من المشروع بكافة تفاصيله، ابتكر القيّمون عليه تطبيقاً للهاتف المحمول يحمل عنوان “قنديل المتوسط”. ينطبق البرنامج على السواحل الكاتالونيّة وقد تم تصميمه لتسهيل وصول المواطنين إلى المعلومة عبر الاستعانة بأداة مفيدة للولوج إلى الموضوع ذي الصّلة.
أين لبنان من “خطر القناديل”
لبنانيّاً، لا يخرج خطر قناديل البحر عن إطار اللّسعة والحريق والإزعاج. تدخل الإصابة في حالة الخطر الحقيقيّ وربّما الموت في حالةٍ واحدة وهي عندما تلتفّ القناديل على جسد السبّاح وتعقصه في جسده كلّه.
يعود السبب في “سلميّة” القناديل في لبنان، إلى أنّ النّوع المنتشر فيه يُدعى Rhopilema Nomadica وهو من الأنواع غير السّامة، ولكن المؤذية.
انطلاقاً من هنا، لا يمكن وضع شواطئ البلدان التي تقوم بالمشاريع لمواجهة خطر القناديل مع الشواطئ اللبنانية في الدرجة نفسها. لا مجال للمقارنة، ولإلقاء اللوم على القيمين والمعنيين ومطالبتهم بالشروع بخططٍ من “الطّراز” نفسه. فقناديل تلك البلدان سامّة ولدغتها مميتة، أما القنديل “اللبناني” فيقع ضمن إطار مسالمٍ أكثر من جيرانه. لكنّ “سلميّة قناديلنا” لا تعني غياب المسؤوليّة بالكامل.
رسميًّا، لا قوانين تلزم المسابح العامّة اتّخاذ إجراءات معيّنة لحماية السّباّحين والغطّاسين من القناديل. وعلى الرّغم من أنّ الأمر يندرج ضمن إطار قوانين السلامة العامّة، إلّا أنّ الأمر يغيب عن سمع المعنيّين ومشرّعي القوانين.
يتحدّث نادر عن عدم وجود “طريقة لتخفيف تكاثر القناديل، أو الحدّ من خطرها”، لكنّه يؤكّد أنّ “التّوعية ضروريّة ومطلوبة لتجنيب المواطنين مزيداً من الإصابات”. يُقدّم نادر عدداً من الإرشادات التي يمكن للسّابحين اتباعها واللجوء إليها عند تعرّضهم للقناديل”. على سبيل المثال “الابتعاد عن التّيّارات الّتي تسبح فيها القناديل، أي تفادي هذه القناديل”. “عدم ضرب القنديل داخل المياه لأنّ من شأن ذلك أن يتفتّت القنديل وبالتّالي تنتشر لوامسه المجوّفة والّتي تحوي خلايا لاسعة داخل المياه”، هو أيضاً من التعليمات التي يؤكد عليها نادر”.
أمّا لسعة القنديل فدواؤها بسيطٌ للغاية، فرك المنطقة بالخلّ الأبيض. ويُعتبر البول أيضاً دواءً للسعة الحارقة، فالفكرة هي في مادّة “الأسيد” الّتي تحويها هذه المكوّنات.
ضعوا “القناديل” في سلّم الأولويّات أيضاً!
ربّما يكون الحديث عن توعيةٍ بحريّة، في ظلّ أزمة النفايات العالقة حالياً وحلولها “المموّهة” بعيداً عن الطّرح. لكن “نشاطات” وزارة البيئة الحالية لا تشي أنّ الاهتمام الكامل منصبٌّ على أزمة النفايات، ولا تُظهر أنّ الوقت الرّاهن مخصّصٌ لإيجاد “منزلٍ صحيٍّ ودائم” كي تبيت فيه القمامة.
فمن يختَر اليوم بالذّات لعقد الاجتماع التأسيسي لمشروع “مراجعة وتحديث خطة التنفيذ الوطنية لاتفاقية ستوكهولم بشأن الملوّثات العضوية الثابتة في لبنان”، ويبدأ بطرح حلول والتزامات الحكومة تجاه المشروع، لا يهتمّ كثيراً بما يُسمّى “سلّم الأولويات”.
وبناءً عليه، فهو مطالبٌ بإعطاءِ كامل “المخاطر” البيئية الأخرى الاهتمام نفسه، وليس أدناها خطر قناديل البحر، لأنّ الأمر فعلاً ليس بالعابر.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي
اضف تعليق