ديفيد كوكس –
في جامعة “نورثويسترن” بولاية إلينوي الأمريكية، تُعلم مجموعةُ من علماء النفس عددا من الطلاب الطريقة التي يمكن من خلالها ارتكاب جريمة دون أن يتركوا أثراً.
على سبيل المثال تعلم الطلاب كيف يقتحمون مكتباً صغيراً في حرم الجامعة، وقد أُخبروا مسبقا بأماكن المتعلقات الثمينة للموظفين، ومنها خاتم من الفضة. وأُخبروا أيضا بأنسب الأوقات لتنفيذ ذلك الاقتحام؛ تجنباً للقبض عليهم. في نهاية اليوم، سيكون كل واحد من هؤلاء الطلاب “لصاً” رسمياً.
بالطبع هذه الجريمة مرتبة بالكامل، لكن ما يثير اهتمام علماء النفس هو كيف يتحكم الدماغ البشري في الذاكرة المخزنة من أحداث المشاركة في أعمال إجرامية، وإلى أي مدى يمكن إخفاؤها. السيناريوهات التمثيلية للجريمة يمكن أن تساعد في ذلك، ويمكن أن يكون هناك أثر لتلك النتائج على بعض حالات الجريمة المعروضة بالفعل أمام المحاكم حالياً.
تقول زارا بيرغستروم، عالمة النفس المشاركة في هذه الدراسة: “لسنوات طويلة، افترض الناس أنه عندما يواجه المجرم بما يذكره بأعماله الحسنة فإن دماغه يقوم تلقائياً باستثارة المكون الذي يجعله يعترف بجرائمه. لكن لم يحاول أحد معرفة ما إذا كان ذلك صحيحاً. هل يمكن للناس أن يوقفوا عقولهم عن تذكر شيء لا يرغبون في التفكير فيه، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يحدث؟”
إن حقيقة عدم وجود إجابات عن هذه الأسئلة يمكن أن تكون في حد ذاتها أمراً مقلقاً. في السنوات العشر الماضية انتقل علم الأعصاب من المختبر إلى أنظمة الحفاظ على القانون وقاعات المحاكم في جميع أنحاء العالم. وبينما نعرف بشكل معقول أن اختبارات فحص الكذب التقليدية -البوليغراف- لا يمكن الاعتماد عليها، فإن الافتراض العملي هو أن جيلاً جديداً من المسوح الدماغية تعتبر أكثر مصداقية.
وهناك ثقة عالية في التكنولوجيا الحديثة، وهي في الحقيقة تلعب دوراً مهماً في التفريق بين المذنب والبريء، وخاصة في الهند. ففي عام 2008، حكم بالسجن المؤبد على الطالبة أديتي شارما، التي تدرس تخصص إدارة الأعمال، لمدة 24 عاماً وذلك لتسميمها خطيبها السابق أوديت بهاراتي بعد أن أطعمته حلوى مليئة بمادة الزرنيخ. وكان بهاراتي قد شعر بالغضب منها بسبب إنهاء خطوبتهما لترتبط بعدها برجل آخر.
وبينما دافعت شارما عن نفسها في المحكمة، كانت هناك بعض الشكوك لدى القاضي “شاليني برانسالكر جوشي”. فخلال المداولات، اتضح أن المسح الدماغي الذي أجري للمتهمة أظهر أن لديها معرفة عميقة بمادة الزرنيخ، وبالجريمة نفسها، وبالطريقة التي قتل بها بهاراتي.
وتستعمل الشرطة في الهند بصمات الدماغ منذ عام 2003. ويقول ضباط الشرطة إن هذه البصمات الدماغية ساعدتهم كثيراً في الوصول إلى الأدلة، وبالتالي تسريع عملية توجيه الاتهام التي عادة ما تستغرق وقتاً وجهداً كبيرين.
وفي هذه الطريقة، يُطلب عادة من المتهم الجلوس صامتاً في غرفة صغيرة بلا نوافذ، بينما يستمع إلى شريط مسجل عليه مجموعة من المقولات بعضها مرتبط بالجريمة. وتتولى قبعة دماغية يرتديها المشتبه بهم، وتضم 30 وصلة من الأسلاك الكهربية، تتبع أنشطة الدماغ، ثم ترسل المعلومات إلى جهاز يسمى (EEG).
ويعتقد بعض علماء الأعصاب أن ذلك يكشف عما إذا كان المشتبه به لديه معرفة مسبقة بموضوع أو جانب معين، كأداة الجريمة على سبيل المثال، أو الإصابات التي مني بها المجني عليه.
ويستخدم أحد أكثر اختبارات بصمة الدماغ انتشارا طريقة للبحث عن إشارات كهربية محددة يصدرها الدماغ، ويطلق عليها اسم “P300”. وتلاحَظ هذه الإشارة بوضوح عندما يتلقى الشخص إيحاءات بصرية تتعلق بالأشياء، أو الناس، أو المواقع المرتبطة بذاكرة حية ونشطة.
وقد اكتشفت العلاقة بين تلك الإشارة الدماغية “P300” وبين التعرف على الأشياء في البداية على أيدي علماء الأعصاب في أواسط الستينيات. فقد لاحظوا نشاطاُ كهربياً متناسقاً في الدماغ يحدث بعد 300 جزء من الثانية من وصول الإيحاء البصري للدماغ، كرؤية صورة أحد الأقارب على سبيل المثال. لكن استخدام تلك الإشارة “P300” لحل ألغاز الجرائم لم يبدأ إلا بعد حوالي 30 عاماً من ذلك.
وكان أول من طور تقنية لتحديد بصمة الدماغ باستخدام إشارة “P300” هو “لاري فارويل”، الباحث السابق في جامعة هارفارد في مجال علم النفس البيولوجي. وكانت العلامة الفارقة في هذا السياق، هي ثبوت الأهمية البالغة لتلك البصمة في جمع الأدلة ضد المجرم الأمريكي “جي بي غريندر”، مما أدى إلى إدانته عام 1999.
وليست إشارة الدماغ “P300” هي الوحيدة المستخدمة في تقنيات تحديد بصمة الدماغ حاليا، ففي عام 1997، طبق طبيب الأعصاب الهندي تشامبادي موكوندان تجربة لتحديد بصمة الدماغ الكهربية من خلال تقنية أطلق عليها اسم “توقيع الذبذبات الكهربية للدماغ” وتعرف اختصارا باسم تقنية “Beos” والتي صممت لقياس وجود (القدرة على) التذكر من خلال عدد من التغيرات الدقيقة في بيانات نشاط الدماغ. وهذه التقنية هي التي تستخدم حالياً في الهند.
يقول موكوندان: “تستغرق عملية تكوين الإيحاءات التي تقود إلى التعرف على الأشياء والأماكن والأشخاص، وقتاُ طويلاُ. ونحن نقوم باستخدام هذه الإيحاءات من حالات أخرى ليس لها ارتباط بالحالة قيد البحث، ولكن تكون قد حدثت سابقا في حياة المتهم، وذلك بهدف اختبار النظام الذي نطبقه في هذا السياق، وكذلك باستخدام إيحاءات مرتبطة بروايتهم للأحداث المتعلقة بالجريمة، وبالنظريات الموجودة لدى محققي الشرطة”.
ويضيف موكوندان قائلاُ: “إذا كشف الفحص عن وجود إشارات جديرة بالملاحظة، يُعاد الفحص للتأكد من أن رد الفعل حيالها حقيقي. ويتطلب الاختبار من خلال تقنية “”Beos مشاركة المتهم عن رغبة منه، ومن المهم التأكد أن أي إيحاءات تقدم له ينبغي أن تكون بطريقة لا تنطوي على اتهامه.
ويتابع: “يمكن أن يتطلب الأمر أحياناً نقاشاً طويلا يسبق الاختبار ليكون المتهم في حالة ذهنية سليمة، لكي لا يرتبك أو يضطرب أثناء إجراء الاختبار”.
كل ما مضى يعطي انطباعاً بأن فحص Beos، وكذلك فحص فارويل، تم التدقيق فيهما جيداً قبل أن يستخدما في مجال القضاء والتحقيق في الجرائم. ويقول موكوندان إنه إذا أجري فحص”Beos” بطريقة صحيحة، فيمكنه أن يكشف عما إذا كان المشتبه به يمتلك معرفة مباشرة بحدث معين، أو أنه حصل على معلومات من مصدر آخر.
ويضيف أيضا أن نسبة الدقة في ذلك الاختبار تصل إلى 95 في المئة. ويزعم فارويل أن نتائج فحصه تحقق نجاحاً بنسبة 100 في المئة.
وتقتنع أجهزة الشرطة في جميع أنحاء العالم بهذه الاختبارات. وقد حصلت الشرطة في سنغافورة على تقنية البصمة الدماغية عام 2003، بينما وقعت شرطة ولاية فلوريدا الأمريكية على عقد لاستخدام هذه التقنية عام 2014.
وتدرس شرطة مكافحة الإرهاب الأسترالية حالياً إمكانية الاستخدام المستقبلي للبصمة الدماغية لتعرف إذا ما كان الأشخاص العائدون من مناطق صراعات وحروب قد شاركوا في هذه الصراعات بصورة غير قانونية، خصوصاً إذا كانوا يزعمون أنهم كانوا يشاركون في أعمال إنسانية.
لكن ليس الكل متحمس لاستخدام هذه التقنية. فقد وجه أطباء الأعصاب انتقادات علنية لنقص الأبحاث العلمية المنشورة في مجلات علمية معتمدة، تؤيد ما يقوله فارويل، وموكوندان. ويشعر بعضهم بالقلق من استخدام أجهزة فحص الكذب (البوليغراف)، إذ أن بصمات الدماغ التي يتم الحصول عليها أثناء الفحص تعتمد بشكل كبير على طريقة إجراء هذا الفحص.
وتقول بيرغستروم إن هناك حاجة إلى بروتوكول مقبول دولياً لتطبيق هذه التقنية. فوجود هذا البروتوكول ضروري للتأكد من أن المحققين لا يتلاعبون بالفحص ونتائجه، سواء عن عمد أو بطريق الخطأ، بهدف زيادة فرص الحصول على استجابات للدماغ تدين المتهمين.
وتضيف بيرغستروم: “بإمكانك أن تصل إلى ما تريد الوصول إليه حسب الطريقة التي تستخدم فيها الإيحاءات التي تقدمها للمتهم”.
لكن هناك جانب آخر غير معروف. إذ يصر المدافعون عن هذه التقنيات على أن تلك التقنيات، مثل إشارة “P300″، هي عبارة عن ردود دماغية تلقائية لا يتحكم فيها المتهم. فهل هذا صحيح؟
هذا يعيدنا إلى مسألة تمثيل الجريمة في جامعة نورثويسترن بكاليفورنيا، حيث تريد بيرغستروم وزملاؤها من الباحثين معرفة ما إذا كان الشخص المذنب يمكنه في الحقيقة أن يغش في تلك الاختبارات عن طريق منع الإشارات الدماغية التلقائية P300″” التي يفترض أن تصدر عن الدماغ تلقائياً نتيجة لتقديم بعض الإيحاءات المهمة له.
في دراسة أولية، طلبت بيرغستروم وفريقها من الأشخاص الذين يجري عليهم الفحص أن ينظروا إلى صور جريمة على شاشة الكمبيوتر، وأن يتخيلوا أنهم هم الذين ارتكبوها، قبل أن يحاولوا أن يتعمدوا نسيان هذه الجريمة أثناء اختبار البصمة الدماغية. فتوصل الباحثون إلى أن غالبية الخاضعين للفحص تمكنوا من القيام بذلك فعلاً.
تمثيل الجرائم يمثل المرحلة التالية من البحث. هل يمكن لأي شخص أن يغش في هذا الفحص حتى لو ارتكب فعلاً عملية سرقة؟ النتائج المبدئية تقول نعم إنه يمكن ذلك. تقول بيرغستروم: “وجدنا أن بعض الأشخاص يجيدون التحكم في نشاط دماغهم ويكتمون هذه الذكريات البيوغرافية التلقائية”.
وما تزال هناك علامة استفهام حول ما إذا كانت اختبارات تمثيل الجريمة تشبه في نتائجها ما يحدث في حالة الجرائم العنيفة الحقيقية. يعتقد بعض علماء النفس أن الطلب من متطوعين ارتكاب جرائم في بيئة حقيقية يمكن أن يكون الوسيلة الأفضل لفحص ما إذا كان الشخص المذنب يمكنه أن يتعمد الغش أثناء خضوعه للاختبار.
لكن بيرغستروم تعتقد أنه حتى من خلال ما تم التوصل إليه حتى الآن، فإن البصمة الدماغية ينبغي أن تكشف جوانب من نشاط الدماغ مما يميط اللثام عما إذا كان شخص ما يتعمد إخفاء ما يعرف من ذكريات مخزنة في دماغه.
يقول موكوندان: “صحيح أنه ربما يوجد أشخاص ينجحون في التناسي، سواء بطريقة متعمدة أو غير ذلك. فلدينا حالات استطاع فيها المتهم أن يتحدث عن أصعب اللحظات مأساوية خلال أفعال ماضية، لكنه لم يستطع تذكرها. لهذا السبب يجب أن يتم التعامل مع تقنية Beos الآن كدليل مساعد في المحاكم، إلى جانب الأدلة الرئيسية”.
المشكلة هي أن دليل البصمة الدماغية يمكن أن يبدو مقنعاُ للغاية بالنسبة للقاضي في المحكمة، وربما أكثر من ذلك بالنسبة لهيئة المحلفين.
ففي عام 2008، نشرت مجموعة من خمسة علماء أعصاب تقريراً يحث السلطات القانونية والشرطة في الهند على عدم استخدام هذه التقنية، لأن الدليل على فعاليتها محدود جداً، غير أن هذه النصيحة لم تلق آذانا مصغية.
وتعتبر بصمات الدماغ مقبولة كدليل فقط في المحاكم الهندية، لكن كثيراً من خبراء القانون يعتقدون أنها مجرد مسألة وقت قبل أن يتغير هذا الوضع.
يقول غاري غيبسون من كلية “ويسترن سكول” للقانون بجامعة كاليفورنيا: “سيعود القضاة إلى الطريقة المحافظة، وسيطلبون دليلاً ملموساً يمكن الاعتماد عليه. سيحتاجون لمعرفة ما إذا كانت النتائج ذاتها تتكرر وتتأكد بعد إجراء ألف اختبار؟”
ويتابع: “هل من سبيل للتأكد من أن الأدلة لم تتعرض للتحريف؟ لكننا سنجد قاضياً، عاجلاً أم آجلاً، يسمح باستخدام البصمة الدماغية ربما في قضية مدنية؛ لآن المخاطر أقل. وهذا من شأنه أن يكسر العوائق أمام قضايا الجريمة.”
الأمل معقود على أنه بحلول الوقت الذي يتم فيه ذلك، سنكون قد عرفنا الكثير من الأمور المتعلقة بنقاط الضعف المحتملة في تلك التقنيات لكي نقرر كيف يمكن التعامل مع نتائجها.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي
اضف تعليق