«الناتو» يحتفل فوق قبر حلف وارسو!

 

وسيم ابراهيم –

على بعد ساعتي طيران من الكرملين، بمسافة نحو 800 كيلومتر من الحدود الروسية، عقد قادة حلف شمال الأطلسي قمتهم التي حلا لهم وصفها بـ «التاريخية». سياقها، قراراتها، موقعها، تجعلها بالفعل قمة الاستفزاز لموسكو. حلف «الناتو» صمّم أصلا لمواجهة روسيا، منذ اتحادها السوفياتي إلى انحسارها مع انهياره وصولاً إلى محاولة نهوضها الحديث.

لكن العارفين بقياسات الميزان العسكري يقولون إنها مناورة رمزية. هؤلاء يعرفون أن روسيا لن تتخلى عن العضد الذي جعل منها قوة عظمى في عالم اليوم، باعتراف قيادتها التي توعدت بالردّ على الاستفزاز الأطلسي، ما يبددّ الأحاديث عن توقف سباقات التسلح بوصفها أداة رئيسية للحكم الدولي.

من العاصمة البولندية وارسو، التي كانت لعقود عنواناً لحلف عسكري مواز أنشأه الاتحاد السوفياتي، أعلن «الناتو» قرارات نشر وحدات عسكرية في أربع دول خرجت من عباءة النفوذ الروسي لتنضم تباعاً للحلف الغربي الخصم. من هناك أيضاً أعلن 28 زعيماً وقوفهم خلف تشغيل الدرع الصاروخية على تخوم روسيا، معتمدين إياها درعا «أطلسية» بعدما أنجبتها الخطط العسكرية الأميركية.

على غرار الخطوات «لضمان أمن» دول حوض بحر البلطيق، ستشمل التعزيزات العسكرية مواجهة التفوق الروسي في البحر الأسود. مقارنة بالجزء المتعلق بموسكو، جاءت المساهمة الأطلسية خجولة، بعد تردد طويل، للمشاركة في الحرب على «داعش»، مع نوايا معلنة ودعوات موازية لنشر قوات أطلسية على الأرض كجزء من استراتيجية «نشر الاستقرار» في الجوار العربي المشتعل.

كانت طقوس القوة تلك التي حرص الأطلسي على افتتاح قمته عبرها. لم يكن هناك الكثير الموحي بغير ذلك. طاولة مستديرة في صالة ديكورها متقشف، كما يجدر بصالة إدارة الحرب، تتوسطها النجمة الرباعية الدالة على الردع من كل الجهات. جلس حولها 29 دولة، الأعضاء في الحلف مع الجبل الأسود التي باتت في حكم المنضمة. قبل كلمتي الافتتاح، أوعز الأمين العام للأطلسي يانس شتولتنبرغ، فدخل ضباط يحملون الأعلام على وقع قرع الطبول العسكرية، ملتفين داخل الدائرة لأداء تحية التبجيل والعرفان لجنود تحالف يشمل نطاق دفاعه المشترك «نحو مليار شخص»، كما شدد أمينه العام.

بعد انتهاء مداولاتهم الافتتاحية، مستمعين إلى متوالية الكلمات والهواجس خلف كراسي الجلد «البيج»، انتقل القادة إلى صالة أخرى ليكون تسمية القمة «تاريخية» على أصوله. جلسوا يتناولون الطعام في الصالة نفسها التي وقع فيها قادة ثماني دول، يتقدمهم الاتحاد السوفياتي، ميثاق حلف وارسو في 14 أيار العام 1955 بعد أيام من إطلاق عملية دمج المانيا الغربية في الحلف الأطلسي.

مرت الآن ستة عقود على تلك اللحظة المؤسسة لعالم القطبين. سينهار ذلك النظام العالمي بعد 36 سنة مع تفكك السوفيات، ثم يسود القطب الأميركي الواحد، مدرّعا بتفوق عسكري لا يضاهى، قبل أن ينتشر توتّر يذكر بأجواء الحرب الباردة مؤرّخا باشتعال الصراع الغربي مع روسيا في أوكرانيا. صدام مصالح جاء مع تجرؤ الاتحاد الأوروبي، بتشجيع أميركي حتى فاق حماس المعنيين بالأمر، على العمل من دون أي اعتبار للخطوط الحمراء التي وضعتها موسكو. مع ذلك، قال أمين عام الأطلسي إن كل استنهاضهم للجهوزية ليس إلا تعزيزاً لمبدأ «الردع»، مبرراً أن «الناتو لا يعد للمواجهة، لا نريد حرباً باردة، إنها تاريخ ويجب أن تبقى تاريخاً».

على أرض الواقع، قرارات الاحتراس العسكري لا يمكن أن تدلّ على أهداف أخرى. بالأحرى لا يمكنها أن تحقق حتى الردع، كما دعت الدول الطالبة له. وفق قرارات القمة، يفترض أن تنشر أربع وحدات عسكرية، في بولندا ولاتفيا ولتوانيا واستونيا. حجم كل منها نحو ألف جندي، مع معداتهم وتجهيزاتهم العسكرية. الوحدات ستقودها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وألمانيا. ستكون تشكيلاتها متعددة الجنسيات أيضاً، للقول إن كل دول الحلف تقف خلف الرد، بما يعني أن المسألة ليست متعلقة بحجم القوة بل برمزيتها، لكون الاعتداء على عساكر أي دولة أطلسية سيحرك بند الدفاع المشترك.

لكن بعض المطلعين على هذه النقاشات من الداخل يقولون إنها عملية تمويه، يعرف جميع المعنيين بها أن ما خلفها لا تعكسه التصريحات التي تبقى مجرد أغلفة لتصديرها. أحد المسؤولين الأوروبيين المشاركين في نقاش الاستراتيجية الأمنية والدفاعية قال لـ «السفير» معلقاً «لا أعتقد أن الناتو وروسيا مهتمون بالمواجهة، الخطوات التي أعلنتها القمة هي أقرب للرد الأميركي على انتقادات حلفاء واشنطن لسياستها»، قبل أن يوضح «المسألة ببساطة تتعلق بالخلاصة أن الأفضلية على الرغم من كل التحركات العسكرية انتهت لصالح روسيا، هذه مشكلة طبعاً، هناك فشل لتحقيق الأهداف في أفغانستان، في سوريا (الرئيس السوري بشار) الأسد لم يذهب وحلفاء واشنطن في أوروبا يرون أنها هي من سمحت بذلك، نفس الخلاصة في أوكرانيا لأن الولايات المتحدة كان يجب أن تكون مستعدة أكثر».

إذا كانت قمة رمزية، هل هناك ما يجعلها «تاريخية» فعلاً؟ يرد المسؤول الأوروبي «هناك عنصر تاريخي طبعاً لكن ليس بالنسبة لمستوى القرارات. المسألة تتعلق بدوافع هذه الدول الشرقية، جميعنا يعرف أن روسيا لن تنجر إلى صدام خاسر مع الناتو، ليس هناك خطر واقعي ملموس لكن لا يمكن لوم هذه الدول لأن قلقها يأتي من سردية وتجربة تاريخية ستبقى حاكمة لسلوكها».

النتيجة أن الجميع رابح، وفق حسابات أخرى. الولايات المتحدة تبقي حالة الاستنفار، ما يعني الحفاظ على نمو المبيعات العسكرية. حالة الاستقطاب الشعبي بدورها تجعل الزعماء القوميين، وعلى رأسهم بوتين، يحققون شعبية قياسية.

لكن على كل حال، الحلف العسكري الغربي يجعل أمن أوروبا، حسابياً حتى لو لم يوجد تهديد فعلي، في يد واشنطن غير المتذمرة من عدم استجابة بقية الحلفاء. وفق الأرقام التي نشرها الأطلسي قبل أيام، حول المدفوعات العسكرية، تشكل مساهمة واشنطن أكثر من 70 في المئة في الإنفاق العسكري للحلف. لذلك لم تمرّ كلمة، مناسبة، إلا وردد فيها شتولتنبرغ إلحاح واشنطن «أين أموالكم»، مطالباً بزيادة الإنفاق لمستوى 2 في المئة من الدخل الاجمالي. الأمر الذي لا تحققه سوى خمس دول: أميركا، اليونان، بريطانيا، استونيا، بولندا.

الاحتواء يبقى هدفاً في الأفق. المناورات الأطلسية المتعاظمة على تخوم روسيا، نشر الدرع الصاروخية في رومانيا ولاحقاً في بولندا، إعلانها درعاً تخص الحلف وليس واشنطن؛ كل هذا يؤثر على فعالية القوة العسكرية الروسية بوصفها عنصر تفوق يعمل مكنة للتأثير. موسكو ترفض ذلك، ليس فقط بالمناورات، بل بمضايقات العبور الخطر لطياريها، قرب سفن واشنطن أو طائرات حلفائها الأوروبيين.

هناك سياق واضح. حينما حدد بوتين ما يجعل دولته قوة عظمى، قال إنها ثلاثة عوامل: الثقافة، الاقتصاد، القوة العسكرية. تفوق روسيا في الأخيرة محسوم برأيه، كما استشهد بتراث الثقافة المؤثرة، مقراً بقصور الاقتصاد، لكنه بذلك يعترف بأن القوة العسكرية، وليس غيرها، هي ما تحفظ لدولته دور زعامة دولية. من دون هذا العامل، إذا تم تطويقه ولجمه فعلاً، لن يكون لروسيا مقعد بين الكبار. فهمٌ كهذا يوضح التصرف الجاري روسيا بمقتضاه، مهما تكاثرت الاتهامات والادانات.

القمة الأطلسية استضافت زعماء أوكرانيا وجورجيا، الدولتين الطامحتين لعضوية الناتو الذي يصر على سياسة الأبواب المفتوحة رغم استبعاد ضمني لتوسع صدامي مع موسكو. دولتان جعلهما التحرك الروسي غير قادرتين على تحقيق شرط أساسي للعضوية: سيادتهما منقوصة، مع اقليمين جورجيين انفصاليين فيها بدعم العسكر الروسي، ومع الاقليم الانفصالي المستمر في الحرب مع الدولة الأوكرانية. لكن الدعم الأطلسي مستمر، تحت عنوان اصلاح القطاع الدفاعي وضمهما إلى مناورات مشتركة بوصفهما شركاء للحلف.

مسار خروج بريطانيا، كما هو مفترض، من الاتحاد الأوروبي ألقى بظلاله أيضاً. الاتحاد الأوروبي وقع مع الأطلسي إعلاناً مشتركاً لتوثيق التعاون، هو الأول من نوعه بوصفهما منظمتين، ليشمل التعاون الاستخباري ومواجهة التهديدات الهجينة والاعتداءات الارهابية. مضيف القمّة، الرئيس البولندي أندري دودا، قال إن هذا التعاون «هام خصوصاً اليوم حينما نواجه بانقسامات، وبعدم الأمن المتولد تلقائياً من هذه الانقسامات».

واشنطن لم تكن بحاجة لاشارة ضمنية إلى الضرر من الخروج البريطاني. الرئيس الأميركي باراك أوباما اعتبر أن «الخروج المنظم» سيكون في صالح الجميع، مع التشديد على أن لا أحد سيكون منتفعاً من مفاوضات مطولة وخلافية». تلك بدورها مجرد إشارة ضمنية مقارنة بما ذهب إليه خمسة أمناء عامين سابقين للناتو، اعتبروا أن الانفصال البريطاني سيقلل نفوذ لندن دولياً، وسيضر بمصالح الحلف بما ينفع فقط خصومه.

ليس هناك الكثير بالنسبة للرد على تهديدات «داعش». يمكن ذكر مثال عن أن فوائد التحشيد ضد روسيا مغرية أكثر منه ضد تنظيم الارهاب الدولي، حتى أن قادة عسكريين اشتكوا من ذيوع الصيت والانتباه المركّز بما يشتت الانظار عن روسيا. فضحت ذلك مجموعة رسائل بريدية تسربت أخيراً تخص القائد السابق لقوات الأطلسي الأوروبية فيليب بريدلوف. الرجل اشتكى من تجاهل البيت الأبيض لاستنهاضه ضرورة التحشيد العسكري ضد موسكو، ليعلق الآن أنه لا يرى كل الخطوات الحالية قادرة على تأمين أوروبا الشرقية في حال اقدام روسيا على تحرك عسكري.

القمة تستضيف ملك الأردن عبد الله الثاني، ووزراء دفاع بضع دول عربية. أعلن الأطلسي أنه سيرسل طائرات أواكس، لتكون مساهمة مباشرة في تحالف واشنطن ضد داعش، كما سيدرب القوات العراقية داخل بلادها بعد أن كان الأمر مقتصراً على الأردن. استراتيجية نشر الاستقرار في الجوار تبقى غير معلنة بالتفصيل، لكونها تبقى خططاً في عهدة العسكريين. سبق للناتو الاعلان أن الأمر يخص التحضير لنشر قوات كبيرة، كما فعل في البلقان وأفغانستان. القائد السابق لقوات الأطلسي في أوروبا، أيضاً، الأدميرال جيمس ستافريدس قال إن تحرك الأطلسي هذا «غير كاف»، موضحاً أنه «نحتاج على الأقل ما بين 15 إلى 20 ألفا من القوات الغربية لتنخرط في القتال».

http://assafir.com/Article/1/501925

لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة