نصري الصايغ –
حصل الاتفاق على الملف النووي الإيراني… وتغيّر العالم. نادراً ما يتغيّر العالم بسرعة. سيستكمل مساراته ببطء ثقيل، ويتبدّل يومياً، بخفة التطور، من دون ضجيج، وبمنسوب معقول من التوقع الحذر… حروب كثيرة تندلع، ويكمل العالم مساره البطيء، حروب قليلة جداً تغيّره، فتختفي فيها دول، تزول إمبراطوريات، وتولد كيانات وتفتح أسواق، وتسقط عقائد.
العالم قبل الحرب الكونية، يختلف عما بعده: الإمبراطورية العثمانية خرجت من التاريخ، الإمبراطورية البروسية اختفت من الجغرافيا، الإمبراطورية الجرمانية خرّت على قدميها. بعدها، ولدت كيانات سايكس ـ بيكو واستفحلت لقرن من الزمن…
العالم بعد الحرب العالمية الثانية، قضى على فاشية قاتلة ونازية مجرمة، وانتصب منقسماً بين كتلتين، تتوسطهما هيئة دولية (الأمم المتحدة) وتعيش على أطرافها، دول مستعمرة تتحرر، لتكون نواة العالم الثالث البائس. ما قبل الحرب الأولى وما بعد الثانية، ولدت الصهيونية ونشأت إسرائيل. واستقر الوضع الإقليمي على حروب إسرائيلية، غيّرت المنطقة ولم تغيّر العالم. استقرت المنطقة على أرباح إسرائيلية وخسائر عربية، برعاية القطبين المتنافسين دولياً، إلى ان حضرت «إيران الثورة». بعنوان فلسطين، وليس بالعنوان النووي، «إسرائيل» تخاف العنوان الأول.
الحروب لا تستأثر بتغيير العالم، أحياناً، يسقط حجر القنطرة في منظومة (واسطة العقد) فتنهار كتلة ويفاجأ العالم باختفاء دول.
سقط جدار برلين، كان ذلك إيذاناً بنهاية «الإمبراطورية الماركسية اللينيية» العظمى، انتهى الاتحاد السوفياتي. مات حلف وارسو. انتقمت دول أوروبا الشرقية من الاستبداد الستاليني ووارثيه. تحوّلت إلى ديموقراطيات ليبرالية. تمدّد الحلف الأطلسي، نصبت الصواريخ على حدود روسيا. لم يكن العالم كذلك من قبل. صار بقطب واحد سيد، صاحب الأمرة في الحروب المفتوحة.
الديبلوماسية الناجحة في معالجة الصراعات والأزمات المستحكمة والمسيّرة للسياسات في خطوط متواجهة، تنجح في تعديل صورة العالم ومساراته. «الصين العظمى»، صين ماوتسي تونغ، خرجت من عزلتها بديبلوماسية «البينغ بونغ». (كرة الطاولة) ففُتحت الطريق امام لقاء العملاقين، الأميركي والصيني. أُخرجت «الصين الوطنية» من الأمم المتحدة، دخلت «الصين الشعبية» في مجلس الأمن، عضواً كامل القوة، متمتعة بحق «الفيتو»، حالياً، رساميل الصين موظفة في دولة الامبريالية العظمى.
قد يتغير العالم في وجهته نحو الأفضل، وأحياناً نحو الكارثة. حظنا من التبدلات الدولية والتغيرات الإقليمية، هو الخسران. «الربيع العربي» الذي حضر متأخراً، انقلب إلى حروب الجميع ضد الجميع. الوعد بالحرية والديموقراطية والكرامة والخبز، انتهى إلى وعيد بالقتل والسفك والترويع. العراق في مجازره وأحزانه. سوريا في استنزاف شعبها وحجرها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، صارت حريقاً يشعل حرائق. ليبيا من كارثة إلى محرقة. اليمن يتمرّن على حرب أهلية دائمة. التكفير الإسلامي، هو الثقافة البديلة، لثقافة التنوير… إن الجاهلية التي نعانيها، أقسى من الجاهلية الأصلية.
لقد تغيّرت المنطقة… وقد لا تبقى على قيد الحياة. فيما نجت إسرائيل من مجهول التغيير، وتحكّمت تركيا بأوامر التدمير، ومدّت إيران أذرعها إلى احتضان وتفعيل البيئات التي تتناسب ومذهبها الديني ونهجها السياسي والتوجّه إلى فلسطين.
نادراً ما يتغير العالم. الاتفاق النووي بين إيران الإسلامية، وبين مجموعة الدول العظمى، غيّر العالم، بنسبة حاسمة، وإيران ليست دولة عابرة، هي من التاريخ وفيه، منذ ما قبل التواريخ العربية. عاصرت حضارات وأنتجت ثقافات وقامت باجتياحات… دولة مزمنة، كانت ذات حقب، امبراطورية بصيغ ثقافية ودينية مختلفة. إنما، وفي العهود التي سبقت «الخمينية» كانت دولة وازنة ضمن حدودها، وذات ثقل على جيرانها في الخليج، ومنتظمة في المنظومة الإقليمية والمنظمات الدولية. بعد الشاه، صارت إيران دولة ممتدة من حدود أفغانستان إلى فلسطين. وقفت بشراسة ضد أميركا. مارست حقها في معاقبتها بقسوة على دعمها للشاه، وعلى انحيازها لإسرائيل وعلى اشتراكها بالحروب ضد الشعوب المظلومة والمضطهدة. ورثت مواقف ثورية، سبقتها إليها أحزاب قومية ويسارية ودول ذات ثقل. ولكن أياً منها، لم يستطع أن يوجه صفعة للامبريالية. إيران تجرّأت. بدأت عاصية وقوية ولا ترتد. قاتلها جيرانها العرب بالسلاح والمال والحصار. صمدت وردّت المحارب صدام إلى جحره، وأفقدت دول الخليج صوابهم وبعض جيوبهم. وجدت إيران أن فلسطين بلا ابوة، الأبوة العربية عجوز عاجزة. تبنّت فلسطين، ومن أجلها، دعمت وموّلت وسلّحت المقاومة… هذه الدولة «قلب محور الشر» على مدى ثلاثة عقود وأعوام، تم الاعتراف بها، دولة كاملة الأهلية السياسية والعلمية والدولية.
بالفعل، لقد تغيّر العالم. ومن صور هذا التغير، أن أوباما أغضب إسرائيل، فجُنّ جنونها. فيما كان يرضي طهران، ويظهر على شاشتها مبشراً بفضائل الاتفاق مع إيران.
لم يشهد التاريخ شيئاً من هذا القبيل. بالمقابل، لم تعد اميركا «الشيطان الأكبر» والعالم لم يعد فسطاطين. السياسة تحتمل ما لا يحصى من الألوان. الأسود والأبيض، من مخلّفات الأيديولوجيا العقائدية والدينية. بالفعل، الواقعية والحوار وتعدّد الخيارات، هي التي انتصرت. بإمكان العالم أن يعيش بسلام على قاعدة التعدد وليس على قاعدة التشابه والتماثل.
تغيّرت اميركا ومعها الغرب كله. لم يعترف هذا العالم بحق إيران، عندما كانت بعد فتية، مربكة، محاربة. لم يعترف بها داخل كيانها كدولة… أليس غريباً أن تقبل إلى موائد الكبار، وتجلس بمحاذاة الدول العظمى، فيعترف بحقها النووي، فيما أذرعها ممتدة خارج كيانها، وتلعب أدوارها الإقليمية بالسياسة وبالنار، في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟
وهكذا، أوباما يدافع عن الاتفاق متحدياً «الكونغرس»، واللوبي اليهودي، إسرائيل تعيش هيستيريا غير مسبوقة. الغرب يوضّب حقائبه على عجل للسفر إلى طهران، حاملاً معه مشاريع الاستثمار بالمليارات… تغيّرت اميركا… أوباما يجهد لطمأنة السعودية، وهذه تطالبه بإبقاء العقوبات بحجة الإرهاب. فيما أوباما وغيره، يسعون إلى تعاون مع إيران، لحلول في سوريا واليمن والعراق، ولقتال «داعش» والتكفيريين، السعودية لا تتغير.
تغيّر العالم… ولكن المشاكل الأخرى مستمرة. الاتفاق محصور بالنووي، وتعميمه على مشاكل المنطقة، سابق لأوانه، وقد لا يجد ترجمة له. فالمنطقة في المشرق، تحتاج إلى عقود خاصة بها، كي تتغيّر، إذا ظلت على قيد الحياة. للأسف، لا دولة عربية شريكة لإيران وتركيا.
تغيّر العالم… وإيران تغيّرت كذلك وستتغير أكثر، ولكن، أن تتغير، لا يعني أن تتنكر لمبادئك واهدافك، وإيران لن تتنكر لفلسطين والمقاومة.
لمتابعة الخبر اضغط على موقع اضغط علىالرابط التالي